نحاول بهذه الحلقات من أدب الرحلات إمتاع القارئ بالتجوال في العالم رفقة رحّالة وكتّاب شغفوا بالترحال وأبدعوا على اختلاف الأنظار والأساليب في وصف البلدان، سواء انطلقوا من هذا القطر أو من ذاك، مع العلم بأنّ أكثرهم من المغرب الكبير ووجهاتهم حجازيّة لأولويّة مقصد الحجّ وغلبة المشاغل العلميّة والثقافيّة على آثارهم باعتبارهم فقهاء وأدباء، على أنّ الرحلة تكون ممتعة أكثر مع آخرين جالوا في قارات أخرى. الورتاني : الورتاني (محمد المقداد بن نصر): 1875 - أفريل 1950 ولد قرب أبّة بجهة الكاف و تربّى في قبيلته تربية بدويّة دينيّة، ثمّ التحق بالزيتونة سنة 1892 م فأخذ عن سالم بو حاجب والصادق بن القاضي وصالح الشريف ومحمد بن محمود ومحمد النخلي ومصطفى رضوان ومحمد المكي بن عزّوز حتّى أحرز التطويع سنة 1898م فدرّس متطوّعا ومواصلا الدراسة بالزيتونة و بالخلدونيّة بميل إلى التاريخ وأستاذه البشير صفر الذي سمّاه نائبا لجمعيّة الأوقاف بالقيروان سنة 1901 م فصار خبيرا بآثارها ومشاركا في إنشاء مستشفى ابن الجزّار بها. وشرع في نشر مقالاته وقصائده بالصحف. ثمّ سمّي سنة 1915 رئيس دائرة بالإدارة المركزيّة لجمعيّة الأوقاف بتونس. ثمّ ألحقه الوزير الأكبر مصطفى دنقزلي بالوزارة . كما درّس بالخلدونيّة . أحيل على التقاعد سنة 1939 م فتفرّغ للبحث والتأليف بمكتبته القيّمة و لتنظيم المكتبة الصادقيّة (والعبدليّة) ضمن لجنتها. ومن الغريب بعد تقاعده أنّه نجح سنة 1946 م في مناظرة المدرّسين المساعدين بالزيتونة ودرّس بالعاصمة مرهقا بالكبر. له : البرنس في باريس ( رحلته إلى فرنسا وسويسرا) . – تونس 1912 ؛ النفحة النديّة في الرحلة الأحمديّة ( رحلة أحمد باشا باي الثاني إلى فرنسا) . – تونس1936 ؛ المفيد السنوي ( 2 ج ) . – تونس 1936 ؛ رسالة في تاريخ الشابيّة (خ) ؛ دراسة في تاريخ الأطعمة التونسيّة في العصر الحفصي (خ) ؛ دليل الدياجي في أخبار محمد الدغباجي (خ). - الرحلة : حرّر محمد المقداد الورتاني المأمور بالتأليف للحضرة الملوكيّة الرحلة الثانية التي قام بها أحمد باشا باي إلى فرنسا سنة 1353 ه / 1934 م ، وصدرت بعد سنتين بعنوان « النفحة النديّة في الرحلة الأحمديّة» مع رحلات وزيارات أخرى ( مطبعة الشمال الإفريقي بتونس 1355 ه / 1936 م ، في 352 ص وصور ) استغرقت رحلة أحمد باشا الثاني، أي الحسيني شهرا كاملا، من 25 جوان إلى 26 جويلية، وامتدّت في الكتاب على 152 صفحة من 63 إلى 214 ، وتلتها صفحات مراسم الاستقبال والاحتفال بقصر المرسى لبضعة أيّام . يوم الاثنين 25 جوان 1934 انتقل الباي ومرافقوه العشرون إلى بنزرت في رتل خاص . ومنها امتطوا متن الباخرة دوقراص عند الزوال ليصلوا في نفس التوقيت من اليوم الموالي إلى مرسيليا ثمّ يتجهوا صوب باريس لتبدأ الزيارة الرسمية لقصر الجمهورية ولنصب الجندي المجهول. تخللت الرحلة مآدب وخطابات واستقبالات وحفلات وزيارات، منها البلديّة و الجامع وقاعات السينما ومسرح الأوبرا وحديقة الحيوان والنزل المعدني بفيشي، وإقامات بأفخر النزل في سفرتي الذهاب والإياب عبر مرسيليا ونيس وأفيان وغيرها. إثر صلاة الجمعة طاف الباي بأرجاء جامع باريس ووقف على مكتبته وحضر بقاعة المسامرات حفل شاي ألقى فيه الصحافي اللبناني صالح أبو رزق قصيدة في مدح جلالته كما زار البستان والمعهد الإسلامي . « وهناك حضر مشعوذ أمام الحضرة وباشر أدوارا سحرية وهو «قيلي قيلي « المشعوذ الشهير عند الجمهور لمقدرته في فنّ السيميا والخفّة والترويج على أعين الحاضرين . رأيناه – و الكلام للمؤلف – يباشر أعماله بشطارة . وهو مع ذلك خفيف الروح. ولكن ما سمعته عنه أكثر ممّا شاهدته منه . وكنت إذا أردت قراءة شيء من القرآن عند مباشرة حيلة يتوقف عن العمل ويرغب منّي العدول عن ذلك إلى أن يفرغ من شغله « ( ص 104) وكم أعجب الباي في السهرة في نفس اليوم بقاعة سينما مارينيان بشارع شان زيليزي بشريط يصوّر وقائع الرحلة فورا ، من مراسم التوديع إلى مراسم الاستقبال وزيارة الجامع والمعهد! ( ص 106) في اليوم الرابع زار الباي وحاشيته معهد تربية الكلاب، وأعجب بأنواعها وأثمانها وخاصّة بالعناية بها، ومنها نوع مدرّب على « التقاط المنكوبين في الثلوج أو للدفاع عن أربابها أو لمجرّد الزينة « حسب عبارة المؤلّف ( ص 107). ثمّ زار متحف الحيوانات بفنسان حيث كان معرض عام 1931 . وقد تحيّل المشرفون لإيهام كلّ صنف ببيئته الأصليّة، فالدبّ الأبيض مثلا « صبغوا له الحجارة الصناعيّة بالبياض لتظهر كالمثلجة، وأجروا لها من الماء ما رطّبها وجرى في شعبها. فترى الدببة ذاهبة آتية على تلك الحجارة المموّهة متوهّمة أنّها في موطنها بسيبيريا . وكثيرا ما يتغلّب الوهم على الفهم في الحيوان المتكلّم ( يقصد الإنسان) فضلا عن الحيوان « ( ص 108) . وأعجب المؤلّف بصفة خاصّة بالزرافة فوصفها بظرافة يتبع