نحاول بهذه الحلقات من أدب الرحلات إمتاع القارئ بالتجوال في العالم رفقة رحّالة وكتّاب شغفوا بالترحال وأبدعوا على اختلاف الأنظار والأساليب في وصف البلدان، سواء انطلقوا من هذا القطر أو من ذاك، مع العلم بأنّ أكثرهم من المغرب الكبير ووجهاتهم حجازيّة لأولويّة مقصد الحجّ وغلبة المشاغل العلميّة والثقافيّة على آثارهم باعتبارهم فقهاء وأدباء، على أنّ الرحلة تكون ممتعة أكثر مع آخرين جالوا في قارات أخرى. وهاهو يصف أطلال الزهراء : « قيل إنّها اشتملت على أربعة آلاف سارية ما بين كبيرة وصغيرة ، جلب كثير منها من الشمال الإفريقي. ويقال إنّ قصر الخليفة كان يحتوي على حوضين ، الأوّل من البرنز المطعّم بالذهب ، وهو هديّة من قيصر القسطنطينيّة . والثاني من المرمر الأخضر جلب من الشام ، ووضع عليه اثنا عشر تمثالا من الذهب الأحمر. أمّا قاعة الاستقبال فقد كانت من عجائب الدنيا ، تحتوي على بركة من الزئبق تبهر الأنظار و تخلب الألباب ... « ( ص 85). كذلك كانت في أوج مجدها أيّام الخليفة عبد الرحمان الناصر، وأصبحت بعد حين خرابا يبابا، على حدّ قوله ( ص 86) . على أنّ الحفريّات متواصلة بها، والاكتشافات فيها مبهرة ، متتالية رغم الانقطاعات بين الحين والحين ( ص 87). أمّا إشبيلية عاصمة المعتضد والمعتمد بن عبّاد فإنّها « تمثّل كلّ ما اشتملت عليه الروح الإسبانيّة من تنوّع . ففيها الثروة الفنّية ، وبها المناظر البديعة والجمال الأندلسي العربي. بها سوق تجاريّة نشطة إذ أنّها تعتبر ميناء كبيرا. شوارعها ضيّقة ومتعرّجة. وإشبيلية مشهورة بتقديم حفلات مصارعة الثيران ...» ( ص 92) ومشهورة أيضا بحكايات المعتمد مع زوجته اعتماد التي سجّلها ابن الخطيب في كتابه « نفح الطيب» فاستحضر المؤلّف أشهرها ، و تعرف بيوم الطين . يوم لبّى لها شهوتها بالخوض في الطين المعطّر مع جواريها كما كانت تخوضه مع البدويّات في طفولتها عند غسل الملابس و المفارش في الوادي الكبير ( ص 93). وهذا قصر المعتمد بتوسعة الملك دون بادرو ، على الطراز ذاته، يشهد على مبلغ الفنّ المدجّن من الروعة والذوق الرفيع، خاصّة بزخارفه من الآيات والأشعار ( ص 96) على غرار قصر الحمراء بغرناطة ( ص 97) . وبجوار القصر ، على أنقاض المسجد ، ثالث كنيسة في العالم بعد كنيستي بطرس في رومة وبولس في لندن ، استغرق بناؤها ثلاثمائة عام على ما يقال. و بها قبر كريستوف كولومب ومكتبة باسمه ، وقبور أخرى لقدّيسين ورهبان ظهرت عليها معالم الثروة المتأتّية من اكتشاف العالم الجديد . وقد طافت جثّة المستكشف العظيم بعديد البلدان بما لا يقلّ عن مغامراته إلى أن استقرّت أخيرا بإشبيلية . ويحمل تابوته الرخامي أربعة تماثيل رامزة للممالك الإسبانيّة في عهده، وهي قشتالة وأرقونة وبافاريا وليون ( ص 98 – 99) . وشاء الله أن تبقى من الجامع الذي غمرته الكنيسة مئذنته المشهورة باسم «الخيرالدا» أي دوّارة الهواء بالإسبانيّة ( ص 100). وفي إشبيلية عدّة متاحف متخصّصة زار الرحّالة االيمنيّ بعضها قبل التوجّه إلى غرناطة في زيارة مستفيظة لقصر الحمراء وجنّات العريف وحيّ البيازين وباب الرملة مع معالم أخرى كمتحف الصور ليختم رحلته بفصل عن حفلة غجريّة وبآخر عن مأساة الموريسكيين أواخر مسلمي الأندلس المضطهدين في دينهم وهويّتهم والمطرودين من أوطانهم بما يثير زفرة أخرى بعد زفرة سقوط غرناطة حيث امتزج الدمع بالدم و الشعور بالشعر ( ص 103 – 172) . يتبع