كان في التاسعة عشرة من عمره حين كتب في دفتر يومياته"إن صحبة النساء ضرورة كريهة من ضرورات الحياة، لهذا أتمنى أن أبتعد عنهن ما أمكنني ذلك، من يجعلنا نفقد مزايانا الطبيعية، الشجاعة، والحزم، والعقل غير النساء".! فلقد أحب تولستوى أيقونة الأدب الروسي الكبير في فترة مبكرة من حياته فتاة اسمها "زينا مولوستوف" دون أن يجرؤ على البوح لها بحبه، وقد كتب في يومياته "أمن الممكن ألا أعود فأراها أبدا؟ أمن الممكن أن أسمع في يوم ما أنها تزوجت، أم هل أراها ثانية وذلك أكثر مدعاة إلى الحزن، سعيدة بقبعتها، وبنفس عينيها المفتوحتين المرحتين والعاشقتين؟". وفي سنة 1848 كتب تولستوى رسالة إلى شقيقه الأكبر "كانت زينا كما علمت فيما بعد إحدى أولئك الفتيات النادرات، وإن كن قد ولدن للحياة العائلية، ونتيجة لذلك يصممن على إغداق كل كنز الحب الذى يختزنه في قلوبهن على أحبائهن المختارين، والمحزن أننى لم أكن يوما من بين جميع الناس الذين أثاروا اهتمامها". ومرّت السنوات بعد ذلك وتزوج تولستوي من صوفيا كانت صوفيا ابنة مدينة مدللة وقد التحقت عند الزواج بليون تولستوي في منزله الريفي على مسافة 300 كيلومتر من العاصمة موسكو حيث عاشت معه هناك 48 سنة. وتشير أن نوعا من سوء التفاهم قام بينها وبين زوجها منذ سنوات الثمانينات في القرن التاسع عشر. كان ذلك على خلفية إعجابها به ككاتب روائي بينما توجه هو نحو الكتابات الفلسفية وانتهج خطا سياسيا قريبا من الفلاحين، بل وتخلّى عن «لقبه الارستقراطي». وأعلن عن نيّته التخلي عن حقوقه ك«مؤلف» لصالح الشعب . وما تؤكده صوفيا صاحبة هذه «اليوميات» هي أنها رغم خلافها الفكري والحياتي مع تولستوي لم تتخلّ أبدا عن «معركتها» من أجل أن «تستعيد موقعها» في حياة زوجها. وتشير أنه كان من جهة «يحاول الابتعاد» أحيانا بينما لم تكن تريد هي سوى «العيش بجانبه». زوجة صبور قامت صوفيا، زوجة تولستوي بنسخ روايته "الحرب والسلم" 7 مرات قبل الاستقرار على نسختها النهائية. مهلا، نحن نتحدث هنا عن عمل روائي ضخم يتجاوز حجمه آلاف الصفحات، وليس بضع مئات فقط! ما كانت لتقوم بهذه المهمة الشاقة، لولا امتلاكها الكثير من الصبر، والكثير من الحب؟ اسمها صوفيا بيرز، تعرف عليها ليو تولستوي بعد سنوات طويلة من العزلة، أحبا بعضهما بجنون، لم يكن عمرها يتجاوز آنذاك الثامنة عشرة، فيما يكبرها هو بستة عشر عاما، ورغم أنه سلمها ليلة واحدة قبل زفافهما مذكرات شخصية يعترف فيها بأسوإ عيوبه، إلا أن قرارها كان قد حسم: سأتزوجك...مهما كلف الأمر، وتم ذلك بالفعل يوم 23 سبتمبر 1862، لتبدأ واحدة من أعقد العلاقات الزوجية والأسرية في تاريخ روسيا! بعد ست سنوات من الزواج، وبالضبط عام 1868، بدأت صوفيا في كتابة يوميات تلخص فيها طبيعة علاقتها المعقدة بعبقرية أدبية لن تتكرر، العلاقة التي لم تكن صافية على الدوام، إذ تخللتها المشاجرات والمناكفات والتناقضات مع شخص مزاجي لا يمكن توقع تصرفه القادم على الإطلاق! تصف صوفيا كل هذا بالقول: "يعتريني الضحك لقراءة مذكراتي، فهناك الكثير من التناقضات كما لو كنت الأتعس بين النساء، لكن الذي يجعلني أكثر سعادة هو عندما أكون في غرفتي وأصلي من أجل سنوات عديدة أخرى من السعادة عشتها بالرغم من هذا الشجار الذي أكتبه هنا" واكبت صوفيا تأليف ليو تولستوي لروائعه، الحرب والسلم ثم آنا كارنينا، وقالت عن الأولى: "تولستوي كان يكتب بألم عن معاناة الآباء والأمهات في الحرب وفقدان الأبناء وما عانته قرية أوستريلتر طوال عام كامل وبرودينو وحريق موسكو، لقد تناولت وبإسهاب الحياة السياسية القاتمة والحب والكراهية". وعن الثانية: "هذه المرة ينحو تولستوي بتاريخ روسيا منحى آخر يختلف جذريا عما قدمه في الحرب والسلم، فهو هنا يقدم تأريخا للحياة الاجتماعية ولا سيما حياة النخبة منهم خاصة النبلاء، تقف في وسطهم آنا كارنينا في صراع بين القلب والعقل، بين الحب والواجب وما بين القديم والجديد، في آنا كارنينا قدم زوجي عصارة جهده وفيها الكثير من نفسه". لكنها كانت مطالبة أيضا بالقيام بدورها كأم أنجبت 13 طفلا مات بعضهم بسبب الأمراض التي كانت منتشرة بكثرة في تلك الفترة، أم تعنى بكل شؤون منزلها بالرغم من وجود الخادمات، وجميع أنواع المساعدة التي تقدمها لزوجها أثناء عمله، فكانت بالفعل امرأة متعددة المواهب، وزوجة قادرة على النهوض بالمهام التي يتطلبها أن تكون امرأة ما زوجة عاشقة لرفيق عمر شاء القدر أن يكون عبقريا مشهورا. لكن الخيط الفاصل بين العبقرية والجنون لا يكاد يرى، والحب وحده لا يكفي لصنع حياة زوجية سعيدة يا صوفيا! يمكن القول إن المنعطف في حياة الزوجين ابتدأ مع منتصف حياة تولستوي، بعد تحوله إلى ما يشبه الواعظ الديني، إذ تخلى إلى حد ما عن كتابة الروايات، واكتسب الأتباع من جميع أنحاء العالم، (كان أبرزهم المهاتما غاندي)، فشكل رؤيته الخاصة للمسيحية، منتقدا مظاهر البذخ والتبذير في الكنيسة الأرثوذكسية، وبدأ يطلق التهديدات بالتنازل عن كل ما يملك، (بما في ذلك حقوق طبع أعماله) إلى الشعب الروسي. فاستشعرت صوفيا خطرا شديدا على مستقبل أسرتها بسبب تقلبات زوجها، وأثر ذلك على اتزانها النفسي خلال ثمانينات وتسعينات القرن التاسع عشر، لتتحول مرغمة إلى امرأة مرعبة خلال العقد الأخير من حياة تولستوي مع بداية القرن العشرين. تشهد مذكرات صوفيا إذن على المصاعب والعقبات التي واجهت امرأة استثنائية متزوجة من رجل ترك بصمته الواضحة في سياق التاريخ العالمي المعاصر. صعوبة في التعامل تقول الزوجة الصبور أنها لم تعرف كيف تتعامل مع تولستوي بسبب صعوبة فهمه، فهو يشعرك بأنه متدين وأعماله كلها مكرسة للخير، بينما هو في حقيقة الأمر يريد شيئا واحدا فقط هو الهيمنة، كان على حد قولها متعصبا لرأيه ولما يرى أنه حق. استفحل الأمر مع اقتراب تولستوي من سن الثمانين، فقد كان يهدد صوفيا باستمرار بتركها وترك الأسرة والعيش على الطراز البوهيمي أواخر عمره، فلم تجد الزوجة بدا من تهديده بالانتحار على طريقة آنا كارنينا بطلة رواية ليو الأشهر، وعندما لم تجد أذنا صاغية منه نفذت تهديدها بالفعل وقفزت إلى إحدى البحيرات محاولة التخلص من كل عذابها، لكنهم تمكنوا من إنقاذها، فقالت: "أريد أن أغادر العذاب لأنني لم أعد أتحمل هذه الحياة الرهيبة ولا أستطيع أن أرى أي أمل". في النهاية أصر تولستوي على رأيه وترك حياة الترف والثراء، وفر من منزله بإتجاه منزل صغير في قرية استابو بالقرب من إحدى خطوط السكك الحديدية، ليتم العثور عليه ميتا بعدما أصيب بالتهاب رئوي، وذلك يوم 20 نوفمبر 1910 عن عمر يناهز 82 عاما، ودفن لاحقا في حديقة ضيعة ياسنايا بوليانا. دون طقوس كنسية أرثوذكسية كما أراد. عاشت صوفيا بعده سنوات طويلة من الترمل، وكانت تذهب لزيارة قبره حيث تطلب الصفح منه لإخفاقاتها معه، رغم تسببه هو الآخر في جزء كبير من عذاباتها، وبقيت وفية لذكرى زوجها إلى أن لحقت به في الرابع من نوفمبر من العام 1919.