نحاول بهذه الحلقات من أدب الرحلات إمتاع القارئ بالتجوال في العالم رفقة رحّالة وكتّاب شغفوا بالترحال وأبدعوا على اختلاف الأنظار والأساليب في وصف البلدان، سواء انطلقوا من هذا القطر أو من ذاك، مع العلم بأنّ أكثرهم من المغرب الكبير ووجهاتهم حجازيّة لأولويّة مقصد الحجّ وغلبة المشاغل العلميّة والثقافيّة على آثارهم باعتبارهم فقهاء وأدباء، على أنّ الرحلة تكون ممتعة أكثر مع آخرين جالوا في قارات أخرى. إيفالد (كريستيان فردناند): 1803 – 1875 م. أمّا صفاقس التي كتب عنها بتاريخ 8 جويلية 1835 فهي متميّزة بموقعها ونشاطها ورخائها، ولكنّها مشابهة لغيرها في قلّة النظافة وفي كثرة زوايا الأولياء الحامية للجناة. قال: «قد لا توجد على كامل ضفاف البحر الأبيض المتوسط مدينة لها ما لصفاقس من موقع متميّز ومحيط جميل فتّان. مباشرة على حافة البحر ترتفع الأسوار الباسقة التي تكتنف ألفا ومائتين من البناءات الرئيسية وألفين وأربعمائة من البناءات الثانوية. وباعتبار هذه الديار وكثافة المخلوقات الرائحة والغادية في الأنهج دون انقطاع، يجوز تقدير عدد السكّان المسلمين بما يتراوح بين عشرة واثنتي عشرة ألف نسمة. إنّ صفاقس لمحصّنة تحصينا حسنا، تعلو أسوارها المدافع، ولكنّني لم أبصر قطّ حراسة. ويحتلّ الحصن «آغا» رفقة بضعة جنود يقال لهم «زواوي» [كذا] ومازال زيّهم على الطراز التركي القديم» (...) ولا توجد هنا بناءات متميّزة ما عدا مسجدا كبيرا جدّا على مذهب «المالكية»، في حين تفتقر المدينة إلى مسجد على مذهب «الحنفية». ويستحيل أن اعترضني مكان يعجّ مثل هذا بملاذات المجرمين. ولا يقتصر الحال على مقامات الأولياء فحسب، بل نجد مناطق بأسرها حبّست شيئا فشيئا على مقامات الأولياء وصارت لها بذلك نفس الصلاحيّة (...) ومن عجيب الأمور أنّ السكن داخل أسوار مدينة صفاقس حكر على «الصفاقسية» الأصليين، محرّم على سواهم. ولا يتسنّى لأيّ غريب امتلاك منزل في حيّز المدينة، عربيّا كان أو بدويّا. ويتعيّن على القادمين من تونس أو من طرابلس أو من أيّ مكان إسلامي آخر أن يقيموا مساكنهم خارج أسوار المدينة. ثمّ إنّ أهل صفاقس بأسرهم ودون استثناء أهل يسر، وليس هناك صفاقسيّ فقير الحال. فكلّ منهم يملك بستانا جميلا خارج المدينة، يتوسّطه منزل ريفي يقيم فيه وعائلته بأسرها طيلة أشهر السنة الجميلة الستّة» (ص 62 – 63). وها هو يوم 20 جويلية يكتب من قابس بقسميها المنزل وجارة مبتدئا كالعادة بتعداد السكّان، فيقول: «يبلغ عدد سكّان «المنزل» من العرب نحو خمسة آلاف ساكن. إلاّ أنّ ما يكتنف هذا الموقع من قاذورات وحشرات ضارّة ووسخ يتحدّى كلّ التصوّرات. ولا يعتبر هؤلاء السكّان، كغيرهم من أهالي منطقة قابس عموما، من المسلمين الحضّر بل من الأعراب ولو أنّهم لا يسكنون الخيام بل ضربا من الديار، هي أقرب إلى أفنية، ويقال لها «حوش» والفناء منها عبارة عن ساحة يحيط بها جدار ولها باب. وفي هذا الفضاء توجد الخيول والجمال والبقر والمعز والطيور إلخ. وفي ركن من أركانه يوضع السرير تحت سقف من سعف النخل تستره الستائر. وفي ركن آخر يوجد المطبخ، وفي موضع آخر غرفتان أو ثلاث غرف من طين وحجارة، عديمة النوافذ. ويمتاز رجال قابس بحسن المظهر والقدّ الممشوق والأعين السود والبنية القوية والهيئة المهيبة. وهم فرسان مهرة ورماة بارعون، شأنهم في ذلك شأن كلّ الشعوب الجبلية، لكنّهم كسالى يستنكفون من العمل. وتقوم النساء بجميع شؤون المنزل وأعمال الحقل، ما عدا الحرث. ويظهر النساء هنا دون لحاف ويبدين ولعا بالغا بالحليّ فتراهنّ يتحلّين بأقراط مفرطة في كبر الحجم وبأطواق للرقبة والجبين وبأسورة وخلاخيل مصنوعة من ذهب أو فضّة أو نحاس» (ص 72). ويلاحظ «أنّ العربي أصيل المكان يقضي طوال النهار في الظلّ يستمتع بالراحة أو مستسلما للنوم. ولئن توفّرت لدى الحضّر من المسلمين إمكانيات تقصير الوقت، كالتدخين ولعب «الدامة» وما شابه ذلك والجلوس في المقاهي أو دكاكين الحلاّقين للثرثرة أو الذهاب إلى الحمامات، فإنّ الأعرابي لا يعرف من كلّ ذلك شيئا. وهو لا ينتزع من راحته إلاّ إذا أعلن عن حالة حرب أو إذا انتظمت عملية سلب ونهب. حينذاك تراه يسارع بتجهيز حصانه وتقلّد سلاحه، وفي لحظة يكون على أتمّ الاستعداد لخوض غمار المعركة» (ص 73). وفي غرّة أوت 1835 كتب إيفالد عن جربة الجميلة قائلا: «إنّ جربة لجزيرة لها ثمانية عشر ميلا من الطول وما يساوي ذلك من العرض، وفي شرقها وغربها مرفآن. ومن الأكيد أنّها كانت في سالف العهد شبه جزيرة، إذ أنّه لا يفصلها عن البرّ من الشرق سوى ربع ميل أنكليزي. ولئن جاز القول عن بشر إنّهم يسكنون في أمان بين كرومهم وأشجار تينهم فذلك ينطبق تمام الانطباق على هذا الموطن وأهله. فالجزيرة قاطبة بمثابة المنتزه الفسيح. وبصرف النظر عن مدينتين يهوديتين فليس بجربة مدن ولا قرى بل مجرّد منازل منعزلة عن بعضها، تحيط بها أبهى الحدائق الغنّاء. وتغطّي الزراعة كلّ شبر، لذا يوجد في هذه الجزيرة الفتّانة كلّ شيء بوفرة: القمح والشعير والنّخل والزيتون والكرم وشتّى أشجار الثمار وأصناف الخضر. وتوجد بجوار كلا المرفأين ساحة يقام فيها السوق مرّتين كلّ أسبوع، ممّا يفسّر وجود بضعة ديار متجمّعة بالمكانين، علاوة على عدّة فنادق لإيواء المسافرين الغرباء. ويقع أكبر السوقين في الناحية الغربية، وهناك حططت رحالي. وبما أنّي دخلت الجزيرة من شرقها وتنقّلت راكبا ظهر مطيّة حتّى المرفأ الغربي، مخترقا إيّاها من طرف إلى آخر، فقد تسنّى لي منذ البداية ملء النظر بجمالها والتحقّق من حسنها وبهائها. وقد يبلغ عدد سكّانها نحو 150.000 نسمة، غير أنّه لم يتيسّر لي التأكّد من ذلك على وجه التدقيق. ويقال إنّ الجزيرة تحتوي على 400 مسجد. وبالاعتماد على هذا الرقم قدّرت عدد السكّان. (يتبع)