نحاول بهذه الحلقات من أدب الرحلات إمتاع القارئ بالتجوال في العالم رفقة رحّالة وكتّاب شغفوا بالترحال وأبدعوا على اختلاف الأنظار والأساليب في وصف البلدان، سواء انطلقوا من هذا القطر أو من ذاك، مع العلم بأنّ أكثرهم من المغرب الكبير ووجهاتهم حجازيّة لأولويّة مقصد الحجّ وغلبة المشاغل العلميّة والثقافيّة على آثارهم باعتبارهم فقهاء وأدباء، على أنّ الرحلة تكون ممتعة أكثر مع آخرين جالوا في قارات أخرى. مع إيفالد في رحلته التونسيّةالطرابلسيّة (5) إيفالد (كريستيان فردناند): 1803 – 1875 م. وأهل هذه الجزيرة اللطيفة من المسلمين كما هو الشأن بالنسبة إلى كامل ساحل شمالي إفريقيا. وينقسم هؤلاء عادة إلى «حنفية» و «مالكية». إلاّ أنّه اعترضتني في هذا المكان طائفة ثالثة غريبة الأطوار يقال لها «الوهابية»، ينتمي إليها ما يزيد على أربعة أخماس أهل الجزيرة» (ص 86 – 87). ويضيف بعد أسبوع: «كانت جربة فيما مضى بمثابة منجم الذهب بالنسبة لمن اضطلع بشؤونها من الولاة. ذلك أنّهم كانوا يدفعون للدولة سنويّا مبلغا معيّنا غير مرتفع ويستحوذون مقابل ذلك على حقّ نهب الأهالي كما أحبّوا واشتهوا» (ص 92). فلعلّه تعاطف مع الأهالي لحسن معاملتهم للأجانب إذ لاحظ أنّه «لا يفوت المرء عند احتكاكه بالجرابة أنّهم يمتازون بسلوك مهذّب إلى أقصى حدّ وبآداب لائقة ولطيفة. كما أنّهم لا يعاملون المسيحيين معاملة الكراهية والازدراء، حتّى أنّنا نكاد ننسى أنّنا وسط أعداء الإنجيل الألدّاء، لولا وجود نصب تذكاري مروّع تقشعرّ له الأبدان، يشهد بما يكمن هنا من كره للنّصارى. وهو يحتلّ موقعا على شاطئ البحر، ويتمثّل في هرم من جماجم النّصارى ومن عظامهم» (ص 93). ومن كان يهوديّ الأصل مثل إيفالد لا يغفل عن تعداد اليهود والتنصيص على مقدّساتهم. لذلك يضيف: «يعيش في هذه الجزيرة، فضلا عن المسلمين، نحو ستّمائة أسرة يهودية تحتلّ مدينتين هما «الحارة الكبيرة»، على بعد ميل من حومة السوق الفسيحة، و «الحارة الصغيرة»، تبعد عن نفس المكان خمسة أميال (...) وتوجد على مسافة ميل من «الحارة الصغيرة»، وسط ساحة منعزلة، بيعة يقال لها «الغريبة»، يزعم أنّها أقدم البيع على كامل ساحل إفريقيا الشمالي» (ص 94). وفي جربة، كذلك، أعجب إيفالد بالماء والهواء، ولكنّه فزع من العقارب الخطيرة على اختلاف ألوانها (ص 96). ومنها ركب البحر إلى طرابلس. وها هو يكتب منها يوم 15 سبتمبر 1835 منوّها بنظافتها وسعة شوارعها، مضيفا أنّ «منازلها لا تختلف عمّا هو مألوف في مدن ساحل شمالي إفريقيا عموما، باستثناء منازل القناصل الأوروبيين، وعددها أحد عشر منزلا يحقّ نعتها بالجميلة، وهي مؤثّثة بجميع المرافق التي يجد فيها الأوروبي الراحة والرفاهة. ويشكّل قصر الباشا الأسبق كومة غير متناسقة من البناءات، أنجزت، على ما يبدو، تدريجيّا وحسب الحاجة، ويتّصل بعضها ببعض بواسطة الممرّات الداجية التي تهت فيها أخيرا. ويقال إنّ طرابلس كانت تؤوي قبل الثورة ثمانية عشر ألف مسلم وأربعة آلاف يهودي وألفين من النّصارى. أمّا اليوم فلا يتجاوز عدد سكّانها النصف أو أقلّ. فقد هجر المدينة أثرياؤها، غالبهم إلى مصر وأماكن أخرى، ولم يعودوا. وهذا ما يفسّر أنّي وجدت صفوفا بأسرها من الدكاكين مغلقة وشوارع برمّتها خالية من السكّان. ويرتدي مسلمو المكان لباسا هو أقرب إلى لباس عرب البادية منه إلى لباس مسلمي المدن. كما نفتقد هنا العلوم والمعرفة التي مازال منها شيء في مدن إسلامية أخرى. ويتعيّن على من أراد تحصيلها من أهل طرابلس الذهاب إلى تونس أو إلى مصر. وكان سوق العبيد قبل اندلاع الثورة أهمّ هذه الأسواق على كامل ساحل إفريقيا الشمالي (...) ومازالت توجد هنا وهناك آثار من عمارات رومانية عتيقة على غاية من الجمال. بيد أنّ أعجب هذه المعالم من الفنّ الروماني القديم قوس نصر محلّى بالنقوش البارزة، وهو لا يزال قائما في حالة جيّدة من الصيانة على مقربة من باب البحر داخل المدينة. وقد شيّد في عصر أنطونيوس بيوس. ونرى اليوم مالطيّا اتّخذ لنفسه من هذا المعلم دكّانا» (ص 109). وممّا يستوقفنا من كلامه عن لبدة قوله: «جاء عن بلينيوس أنّها كانت تدفع للقرطاجيين خراجا قدره يوميّا «طالنت» (Talent). ومازالت بها أطلال معبد ماثلة للعيان وعدّة أقواس نصر ومجاري مياه وأعمدة وغير ذلك. وقد أمر القنصل الأنكليزي بطرابلس بالحفر عن تحف فنية عديدة بعث بها إلى أنكلترا. ومازال باطن الأرض يحوي العديد منها في انتظار محبّي الفنّ من الأوروبيين ليكشفوا عنها» (ص 115 – 116). (يتبع)