نحاول بهذه الحلقات من أدب الرحلات إمتاع القارئ بالتجوال في العالم رفقة رحّالة وكتّاب شغفوا بالترحال وأبدعوا على اختلاف الأنظار والأساليب في وصف البلدان، سواء انطلقوا من هذا القطر أو من ذاك، مع العلم بأنّ أكثرهم من المغرب الكبير ووجهاتهم حجازيّة لأولويّة مقصد الحجّ وغلبة المشاغل العلميّة والثقافيّة على آثارهم باعتبارهم فقهاء وأدباء، على أنّ الرحلة تكون ممتعة أكثر مع آخرين جالوا في قارات أخرى. مع بيرم الخامس عبر الأمصار والأقطار(1) بيرم الخامس ( محمد بن مصطفى بن محمد) : مارس 1840 – 18/12/1889 . ولد بتونس في عائلة تركيّة الأصل شريفة النسب ذات مكانة بالمال والعلم والسياسة . درس بالزيتونة على أمثال سالم بو حاجب ومحمود قابادو . جمع بين التدريس في المدرسة العنقيّة ثمّ في الزيتونة وبين الصحافة في « الرائد التونسي « وبين إدارة إرثه عن أبيه من الأملاك والعقارات. عيّن رئيسا لإدارة الأوقاف سنة 1874 م فمديرا للمطبعة الرسمية في العام التالي فاجتهد في إصلاحها إلى حدّ إهمال ممتلكاته ممّا تسبّب في مرضه وأوجب عليه السفر للعلاج بإيطاليا وفرنسا في العام نفسه، ثمّ في عام 1877 م بفرنسا و بريطانيا. وبعد عودته كلّف بالإشراف على تأسيس المستشفى الصادقي ( عزيزة عثمانة) فنظّمه وجلب إليه أمهر الأطبّاء وخصّص قسما منه للعلاج المجاني . وظلّ ينشر أفكاره الإصلاحيّة مؤلّبا عليه الأعداء كالوزير الأكبر مصطفى بن إسماعيل المتعاون مع القنصل الفرنسي بنيّة التمهيد للاستعمار . تعلّل بالحجّ لمغادرة البلاد فأقام بالحجاز ثمّ بالشام ثمّ بإسطنبول لخمس سنوات ثمّ قضى مثلها بمصر في القضاء إلى وفاته . دفن بالقاهرة بجوار الإمام الشافعي . له: صفوة الاعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار ( رحلته إلى أوروبا وآسيا و إفريقيا، مع تاريخ تونس والجزائر ومصر) . – الأجزاء الأربعة في المطبعة الإعلاميّة بمصر، 1300 – 1303 ه / 1883 – 1886 م، الجزء الخامس في مطبعة المقتطف بمصر، 1311 ه / 1893 م ؛ تح . علي الشنوفي ورياض المرزوقي وعبد الحفيظ منصور، بيت الحكمة، قرطاج / تونس 1999، في 6 ج، الأوّل لترجمته والسادس للفهارس والمراجع . وله أيضا فتاوى ومراسلات ومختصر في العروض و « ملاحظات سياسيّة حول التنظيمات اللازمة للدولة العليّة» و « تحفة الخواص في حلّ صيد بندق الرصاص»، طبعا بمصر، 1303 ه / 1885م. عنه: القاسمي (فتحي) : الشيخ محمد بيرم الخامس / حياته وفكره الإصلاحي . – بيت الحكمة، قرطاج / تونس 1990 ؛ محفوظ ( محمد): تراجم المؤلّفين التونسيين ... 1 / 191 – 197. الرحلة : غادر محمد بيرم الخامس (1840 – 1889 م) تونس بحرا يوم 12/10/1879 لأداء فريضة الحجّ مرورا بمالطة والإسكندريّة والقاهرة والسويس. فممّا قال عن القاهرة إنّها «مدينة رحيبة، يمرّ النيل بمحاذاتها، وعليه آلات بخارية لرفع الماء وتصفيته وإرساله في قنوات تفرّق على جميع المدينة. وعليه جسر حديد، طوله 500 متر، وعرضه يمرّ عليه ستّ عجلات، وعلى حافتيه طريقان للمشاة، وقد صنع سنة 1271 ه/1855 م. وعلى حدودها جبل شاهق، عليه قلعة حصنها، وكانت مستقرّ الأمراء. وهي ذات حصون متينة، صناعيّة، مشحونة بالمدافع من الطراز الجديد الضخم زيادة على تحصينها الطبيعي. وتنظر منها سائر المدينة وأريافها فترى عظم اتّساعها. وبهذه القلعة جامع ضخم ذو قبّة شاهقة ومنائر جميلة مرتفعة، وبه إسطوانات (أي أعمدة) من المرمر الملوّن ذات بهجة وارتفاع عظيم. وبصحنه الرحب متوضّأ أنيق جميل. وبنى هذا الجامع محمد علي باشا. كما أنّه أتقن قصر الحكم بها [...] وبالقاهرة أسواق كثيرة جدّا [...] وأهمّ طرقها القديمة هو الطريق الموصل من الأزبكيّة إلى جامع سيّدنا الحسين [...] ومن محاسن القاهرة حديقة الأزبكيّة الجميلة الأنيقة المحاطة بسياج من قضبان الحديد الجميلة [...] وقصور الخديوي وأقاربه وحواشيه مالئة الحارات الجديدة مبهجة لها برونقها. أهمّها قصر عابدين. أمّا القصور التي له حول القاهرة فهي كثيرة مضاهية أو فائقة على قصور ملوك أوروبا» (ص 1327 – 1329). زار بيرم الخامس مقام سيّدنا الحسين ومقام السيّدة زينب وجامع عمرو بن العاص والجامع الأزهر وغيرها من المقدّسات مستعينا بالتاريخ ومنوّها بمكتباتها وخاصّة مخطوطاتها وأشهرها مصحف عثمان ممّا سلم من استيلاء نابليون. ثمّ وصف بإعجاب وبدقّة الأهرامات والمسلاّت (ص 1330 – 1335) قبل أن يتوغّل في تاريخ مصر منذ أقدم العصور، وسجّل من عادات المصريين ما يلي. قال: «ولهم حسن أخلاق وظرافة وبشاشة في الخطاب. وإذا احتدّت نفوس الرعاع للخصام تراهم بذيئي اللّسان، لهم مهارة في أصناف السبّ حتّى إذا بلغوا حدّ التضارب قال أحدهما لصاحبه «ما عليهشي» فتسامحا وعادا إلى المصافاة. ومن أخلاقهم حبّ السماع لكنّهم اختصّوا بكثرة إظهار استحسانه بالتأوّه مع رفع الصوت. ولا يتحاشى من ذلك حتّى بعض أعيانهم، بل إنّهم يستأجرون أناسا معدّين لذلك [...] ومن عاداتهم إحضار قرّاء القرآن في بيوتهم ليلا للتلاوة بالأنغام، ويعطونهم أجورا على ذلك، بل من الغريب أنّ بعض القبط أيضا يفعلون ذلك» (ص 1396). لكنّه لاحظ كثرة الشحّاذين الذين يهجمون على من يرونه يعطي سائلا إلى حدّ الإضرار به في لباسه وبدنه إذ صار ذلك صناعة، ولهم رؤساء وعليهم أداء (ص 1397). وحدّثنا عن عادات المصريين الغذائيّة فقال: «أمّا الخبز فالعامّ عند الجميع هو نوع مستدير في ارتفاع أصبع، قليل النضج، قطره أزيد من شبر. ويوجد بقية أنواع الخبز الإفرنجي. وأمّا الأطعمة فلها أنواع عديدة، والغالب في الأسواق نوع من الفول مطبوخ في الماء وعليه شيء من السمن. وكذلك نوع من السمك مقدّد عفن الرائحة. وسائر طعامهم فيه الإدام بكثرة، وإدامهم السمن. وأمّا الزيت فلا استعمال له إلاّ في السلاطة. وزيتهم رديء لأنّه مجلوب من كريت والشام. وكلّ لا يحسنون عصر الزيتون. والحسن عندهم هو المجلوب من إيطاليا. ولا يستعمل إلاّ فيما ذكرناه. كما أنّهم لا يأكلون من النعم إلاّ الغنم، ولحم البقر لا يأكله إلاّ الفقراء. وهو معيب. كما أنّه في نفسه رديء. والإفرنج يأكلونه. والفقراء يأكلون الجاموس والإبل. وفي القرى والعرب والسودان يكثر أكل الإبل. وكذلك الذرّة والدخن أي الدرع. أمّا هيئة الأكل فهي على نحو الأنواع التي ذكرناها في تونس وأمّا وقته فهم يأكلون مرّتين غالبا، إحداهما صباحا بعد الشروق ويخرجون إلى أشغالهم ثمّ يعودون إلى ديارهم قرب الغروب فيتعشّون» (ص 1412). (يتبع)