تونس-الشروق- يجمع خبراء الحقل الجامعي والأكاديمي (الاتصالي والإعلامي والاجتماعي والحضاري) على أنّ فكرة المناظرة التلفزية محمودة في سياق التقريب بين الناخب والمنتخب غير أنّ ممارسة التجربة الأولى كشفت العديد من الهنات والاخلالات دون أن يكون ذلك حاجبا لإيجابيات عديدة هامّة في سياق مسار البناء الديمقراطي والتدرّب على الحوار والمناظرات التي تعتبر حديثة بالنسبة للتجربة السياسية والإعلامية في تونس. وعاب عدد من خبراء المجال الاتصالي والإعلامي على المناظرة التلفزية بين المترشحين فقدانها للاركان الأساسية للتناظر مرجعين ذلك إلى حداثة التجربة والى تعدد الترشحات في الاستحقاق الرئاسي، وشددوا على ان هذه النقائص لا تقلل من اهمية التجربة الرائدة التي تؤكد من خلالها تونس انها تخطو بثبات في المنهج الديمقراطي. قللت من حدة الصراع لكن بتفاعلية أقل منجي المبروكي (جامعي ومختص في الإعلام والاتصال) اعتبر الجامعي والمختص في الاعلام و الاتصال منجي المبروكي انه من حيث المبدأ العام تعد المناظرة التلفزية بين المترشحين فكرة ايجابية جدا تتيح للمتلقي المطارحة بين الافكار المختلفة والحلول المفترضة و القدرات التواصلية غير انه يعاب عليها عدم اتاحتها الفرصة للتفاعل بين المتناظرين وذلك ربما بسبب اغراق القائمين عليها في الشكل على حساب المضمون. ويرى منجي المبروكي أن تعدد المترشحين سبب جلي في فقدان المناظرة التلفزية للتفاعلية ودافع رئيسي في صياغة اسئلة مغلقة ومنح توقيت قصير للاجابات يحول دون التعمق في الاجابة و المحاججة لافتا الى ان ذلك لا يقلل من قيمة المناظرة. وشدد المتحدث على العديد من الايجابيات التي اتاحتها المناظرة التلفزية ، منها كسر الصورة النمطية القديمة التي تحوط برئيس الجمهورية ‹›المنزّه›› عن الدنو الى التخاطب مع الشعب، حيث أن المناظرة التلفزية قاربت بين الناخب والمنتخب بشكل كبير علاوة على أنها دفعت الرأي العام وعموم المتفاعلين على الاهتمام بالشأن العام متابعا بالقول :" على سبيل المثال زوجتي لم تكن مهتمة بالشأن السياسي اطلاقا عدا بعض المتابعات ابان الثورة والاحظ اهتمامها اللافت راهنا بالشأن السياسي والشأن العام تأثرا بهذا الحراك السياسي المهم الذي ساهمت المناظرات التلفزية في تحريكه"، وخلص منجي المبروكي إلى ان المناظرة التلفزية جسدت واقعا حقيقيا لانتهاج تونس التجربة الديمقراطية بثبات وساهمت ايضا في ترشيد الممارسة السياسية قائلا:"من ذلك تابعنا المترشحة عبير موسي بأقل عدائية ازاء خصومها السياسيين كما لاحظنا ايضا التقليل من حدة العدوانية في الخطاب السياسي واحجام مرشحي «التيارات الثورية» عن خطابهم القديم سوى بعض الاستثناءات"مضيفا بأن بعض هنات التجربة قد تكون منحصرة في مناخ الشك العام الذي ستتقلص حدته تدريجيا لنرى مناظرة اكثر جدوى في قادم الاستحقاقات الانتخابية. ملل وخيبة أمل الدكتورة نائلة السليني (أستاذة الحضارة في الجامعة التونسية): مثل جلّ التونسيين اعتبرت قرار المناظرة نقطة إيجابية في هذه الانتخابات.. ومثل جلّ التونسيين انتظرت الحصّة الأولى وأنا أتطلّع إلى بثّ يكون في مستوى الحدث؛ وثمرة لتجربة في التعبير الحرّ منذ تسع سنوات. لكن سرعان ما بدأت خيبتي تطغى على حماسي، وذلك للأسباب التالية: انتظرت انتظار الأحمق أن تتنزّل الأسئلة بدءا في تقييم المسار الديمقراطي منذ 2011 وإلى اليوم، وخاصّة أنّ 15 مترشّحا تقلّدوا وظائف منذ الثورة وزارية كانت أو نيابية. وأعتبر أن جميع هؤلاء لهم مسؤولية أو حضور مباشر وغير مباشر فيما مررنا به من محن. ونحن باعتبارنا شعبا يقظا ومازال يعاني سلبيات الحكم السابق والذي نعيشه اليوم نمتلك كامل الحقوق في سماع هؤلاء.. وإلاّ فالتمادي في الخطإ خطيئة. لكن، فوجئت بتغييب تامّ لجميع المسائل التي ذهبت بتونس وبهذا الشعب إلى الهاوية، وفوجئت بصمت الصحافيين أمام ما عانيناه ، حتى خلت للحظة كأنّ الصحافة غير معنية بقضايانا وأنّ التحالف والتوافق وتغييب الحقائق أهمّ من المشاكل التي نعيشها كلّ يوم: فأين السؤال عن الاغتيالات ؟ وأين الحديث عن الجهاز السرّي الذي شدّنا إليه طيلة أشهر مضت؟ وأين السؤال عن المواقف الملموسة من الفساد؟ والعجز الاقتصادي؟ وأين الحديث عن التعيينات العشوائية القائمة على المصالحة والمحاصصة الحزبية؟ وما لها من انعكاس على التدهور الاقتصادي؟... استبدلت هذه الأسئلة بأخرى صفتها العموم واجتناب الدقّة، أسئلة يمكن أن تلقى في كلّ زمان أو مكان، وهي عبارة عن أسئلة شفاهية عادت بي إلى ماض قريب عندما كان الشفاهي مادّة أساسية في الاختبارات بالجامعة. أستاذ يسأل وطالب يجيب، وكم جاهد كلاهما التعب وألزم نفسه بالتركيز.. وكم كانت مملّة تلك الحصص لولا سعي الأستاذ إلى مداخلة منه تكسّر الرتابة وترجّ الطالب. لكن للأسف حتى هذه الرجّة لم نجدها، وتحوّلت الحصّة إلى ملل طال المشاهد فانقطع التواصل وانغلق التلفزيون على نفسه وارتد المشاهد إلى صفحات الفايسبوك بحثا عن حياة مع أصدقائه الافتراضيين وتفتقر إليها هذه الحصّة. كنت آمل أن لا تستأثر الصحافة لوحدها في هذه الحصص، وأن تصاغ الأسئلة من قبل خبراء ومختصّين ،ويكون حضورهم أساسيا لقيادة الحوار وتوجيه المترشّحين إذا خرجوا عن سياق الأسئلة. فما هي الإضافة التي قدّمتها هذه الحصص؟ لا شيء سوى خيبة أمل ويقين أنّنا مادمنا نسعى إلى المرضاة السياسية فلن يصلح حالنا. نجاح في تجميع كلّ العائلات السياسيّة الدكتورة زينب التوجاني (باحثة في الحضارة الإسلامية) تندرج المناظرة ضمن الآليات التي تتيح للمواطنين الفرصة للتأكد من اختياراتهم الانتخابية خاصة أمام عدد كبير من المترشحين. ورمزيا ستلعب المناظرة بالشكل العمودي الذي كانت عليه تأثيرا حاسما في اللاوعي النفسي الجماعي للتونسيين خاصة صغار السنّ. فهم يتدربون على عدم تقديس الحكام ولا عدائهم فها هم يقفون في صف يحاول كل منهم افتكاك رضا الناخبين. وكأن الرسالة التي يرسلها الشكل العمودي القائم على سؤال وجواب هي التالية: الرئيسُ المقبلُ ليس ذلك الأب الذي يحدّد القواعد ويفرضها ويضعها. لقد انقلبت العلاقة من أبوية والشعبُ في موضع القاصر إلى علاقة فيها الشعبُ ممثلا في موقع الصحفيين يُسائل هذا الواقف أمامه طالبا أن يحكمه لا بوصفه يملك سيادة من ذاته أو خارج عقد العلاقة بينه وبين المواطنين بل هو في موقع يطلب الشعب أن يختاره وشرعيته الوحيدة حسن إجابته وتواصله وإقناعه. هذا طبعا حين نقرأ الشكل فقط ونغض الطرف عن المحتوى الذي جعل منه المتفاعلون على شبكات التواصل الاجتماعي مادة للتسلية والسخرية. مما يؤكد السقوط الرمزي لأبوية موقع الرئيس وانتهاء سلطة المستبد الرمزية النفسية. إن هذه المناظرة ليست المحدد الوحيد لنجاح مترشح في كسب أصوات الناخبين ولكنّ رغم ذلك ورغم النقائص والمآخذات فإن هذه الآلية التي تمتد على 3 أيام ويتخللها تفاعل المتفرجين في المقاهي وفي مواقع التواصل الاجتماعي تجعلنا نرى في تونس نموذجا لإمكانية قيام نظام ديمقراطي في بلاد الإسلام، خاصة أن المناظرة الواحدة تجمع حساسيات سياسية لم نكن نتخيل أنها تجتمع سابقا: فنرى التجمعي السابق يقف حذو إسلامي سجين سابق ويقف حذوهما النقابي واليساري والحقوقي والليبرالي والشعبوي ونجد هذه الصورة العجيبة قد تناقلتها الفضائيات والصحف العالمية والعربية. ألا يحق لنا أن نفتخر إذن ونحن نرى مشهدا من المشاهد التي حلم بها مثقفونا المغتربون وكتبوا فيها روايات ومقالات؟ حلموا بالديمقراطية التي تجمع كل الأطياف بلا صراع ولا تكفير ولا تطرف ولا اتهام فإذا تونس تقدم هذا الحلم للعالم لتخبره أنّ بلاد الإسلام قادرة على تعلم الأنظمة الحديثة التي يتعايش فيها المختلفون معا. إنها دربة حقيقية نراها بالعين الثقافية رغم صعوبة واقعنا وكثرة التحديات إلا أنها علامة مطمئنة إلى أننا لا نزال نسير في اتجاه صحيح. نزع القدسية عن الرئيس الدكتور محمد الجويلي أستاذ علم الاجتماع المناظرة كانت حدثا جديدا في تونس والعالم العربي. ولابد من تثمينها فهذه المناظرة -بغض النظر عن النقائص الممكن رصدها- تضع مكانة الرئيس موضع تساؤل وامتحان. وهذا من شأنه أن ينزع عنه صفة القداسة وصورة الرئيس الذي لا يخطئ مثلما هي موجودة في بيئتنا العربية الإسلامية وذهنيتنا السياسية. لذلك تضع هذه المناظرة الرئيس في موضع سخرية وتردد عندما لا يجيب بشكل جيد وهذا كسر للعلاقة بين السلطة المطلقة والحقيقة المطلقة وهو أهم إنجاز في اعتقادي تحققه المناظرة وكل ما بقى ومازاد على ذلك تفاصيل لا قيمة لها. فالقداسة هي التربة التي ينبت فيها الاستبداد بقي لابد من الإشارة على أن الأداء بشكل عام خلال المناظرة يكشف عن رغبة متواترة لدى الأغلبية في الفوز بالرئاسة في كنف الغموض التام. وهذا يظهر من خلال تعويم الإجابات، وهو ما يبين أن هناك غيابا للدقة في الإجابة ويؤكد أنه لا توجد رؤية واضحة للملفات المطروحة من خلال الأسئلة على المترشحين للرئاسة أو على الأقل على أغلبهم.