هناك ما يُشبه الإجماع على خيبة كبرى أصابت جلّ الأحزاب بعد الإعلان عن نتائج سبر الآراء المتعلّق بالدور الأوّل للانتخابات الرئاسيّة، فالأرقام تُثبت أنّ حصاد الأحزاب لم يكن في الحجم المأمول أو المنتظر مقارنة بالانتخابات السابقة، سواء منها انتخابات المجلس الوطني التأسيسي سنة 2011 أو رئاسية وتشريعية 2014 أو بلديّة 2018، فما الذي حدث؟ وما الذي جعل التوجهات العامَّة للناخبين تُوحي وكأنّ هناك عقابا من الناخبين للأحزاب على غرار حركة النهضة وتحيا تونس والبديل التونسي والجبهة الشعبية، بشقوقها، وحراك تونس الإرادة ونداء تونس وآفاق تونس والحزب الدستوري الحر والتيار الديمقراطي وتيار المحبّة.. هذه الاحزاب التي قدَّمت مرشحين للرئاسة أو اعلنت دعمها لأحد المترشحين. بالرغم من الحماسة التي غلبت على الحملة الانتخابية وما رافقها من حركيّة وأنشطة تعبئة لافتة، إلاّ أنّ شيئا ما كان يدور في رحم العملية الانتخابية سيظهر لاحقا أنّه مخالف لتطلّعات ومخطّطات الأحزاب عاكسا ما يُشبه الازدراء أو عدم المبالاة بتحشيد حزبي كان لافتا دونما شكّ واستخدمت فيه طرائق وأساليب مختلفة بلغت حدّ القذارة وتصفية الحسابات ونشر الأكاذيب والإشاعات حول الخصوم والمنافسين. هل استبطن الناخب التونسي كلّ ذلك، وأيقن أنّ مبتغاه لم يكن موجودا في حملات الأحزاب ومرشّحيها وأنّ خطابهم كان مدعاة للانتقام والتشفي منهم؟ قد يكون ذلك، وجيها الى درجة كبيرة. اذ كرّست النتائج ذلك الشعور. فلا وجود لرضا عن خطاب الأحزاب ومرشحيها وأدائهم وقد ضاعف تردّي الوضع الاقتصادي والاجتماعي طيلة الفترة المنقضية من حجم «غضب شعبي» تمّ التعبير عنه بكلّ جرأة عبر صناديق الاقتراع. هناك الكثير من المؤشرات التي تدفع الى الإقرار بوجود ما يُشبه القطيعة بين النخبة ومحيطها المجتمعي، وربّما أضاعت الأحزاب ومرشحوها فرصة الحملة الانتخابية لمعالجة ذلك الخلل، خاصة أنّ عمليات رصد توجّهات الناخبين كانت تُشير إلى تراجع الثقة في الأحزاب والنخبة السياسية عموما منذ أشهر عديدة. وكان الخطاب الانتخابي كلاسيكيا، اعتمد الشعاراتيّة والوعود الضخمة ولم يتخلّص من أساليب الشيطنة والتجاذبات والخصومات الجانبيّة الصبيانية وجاء في شكله مرسّخا لثقافة البذخ والترف السياسي البورجوازي، بما فيه من رصد لأموال طائلة وبهرج الاجتماعات الضخمة، وعاين الناخبون كلّ ذلك وكتموا في دواخلهم ما يُشبه النقمة لإحساسهم، على الأرجح، بالغُبن وكونهم ليسوا سوى أرقام في أجندات الأحزاب ومرشّحيها ومركوب لهم للوصول إلى مواقع الحكم. الأمر على هذا النحو، يبدو منطقيا وعادلا أيضا، فقد تمادت الممارسة السياسية للنخبة في انعزاليتها عن الواقع وتجاهلها لاستحقاقات الناس في معيشهم اليومي وفي عجزها عن فتح آفاق مستقبل جيّد لغالبية الفئات والقطاعات المجتمعيّة وخاصة منهم الشباب المعطّل عن العمل والمتقاعدين والفئات الاجتماعية الهشّة والمهمّشة في الجهات الداخلية النائية. وكان الحصاد الانتخابي من جزاء الفعل السياسي والحزبي، «لم تفعلوا شيئا ويبدو أنّكم لن تفعلوا شيئا في الخماسية القادمة، دعنا إذن نهدم هذا البناء ونُعلن ميلاد أفق جديد»، لا يهمّ في ذلك من سيتولّى مهمة التداول على السلطة والحكم في أعلى مواقعها اي رئاسة الجمهوريّة، دعنا نفتح نافذة للمستقبل بوجوه جديدة فكان قيس سعيد ونبيل القروي الأقرب إلى وجدان الناس قبل عقولهم. فالعاطفة جيّاشة تجاه الاثنين، كرم واهتمام بالفقراء من جهة، وكان ذلك شيئا واقعا فعلا، وتوق الى استكمال الثورة واسقاط منظومة الحكم (السيستام) تحت شعار «الشعب يُرِيد»... ولكن، الا يُمكن القول الآن إنّ الأحزاب عاقبت نفسها بنفسها. فقد تجاهلت الإنذارات المتتالية وقفزت على غضب مجتمعي حقيقي ظاهر للعيان. فواصلت ممارساتها السياسيّة ذات الافق المصلحي والحزبي الضيّق المليئة بالشعارات والخطابات الجوفاء والتي تعجّ بصراعات بعيدة عن اهتمامات الناس في معيشهم اليومي تغلبُ عليها الزعامتيّة والغنائميّة وصراع التموقع وتصفية الحسابات والتشتّت الحزبي. انتخب الناخبون الأحزاب في مناسبات سابقة، ومنحوها ثقتهم. ولكن خاب الظن وفاض كأس الانتظار والرجاء..لقد أسقطت الأحزاب نفسها ومرشّحيها بإرادتها وممارساتها.