بقلم الدكتور عبد الله الاحمدي (أستاذ متميّز بكلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس) من المعلوم أنّ السيد قاضي التحقيق تعهّد بقضيّة السيد نبيل القروي وتولّى استنطاقه وأصدر قرارا يقضي بتجميد ممتلكاته وتحجير السفر عنه. وتم استئناف هذا القرار من قبل لسان الدفاع وتعهّدت دائرة الاتهام بمحكمة الاستئناف بتونس بالملف وكان الاستئناف منحصرا في القرار المذكور فيما قضى به من تحجير السفر وتجميد الممتلكات فقط ولم يصدر قاضي التحقيق في شأنه بطاقة إيداع رغم استنطاقه والنظر في جميع أوراق الملف، إلّا أنّه تراءى لدائرة الاتهام اصدار بطاقة إيداع ضدّه. وقد انتقد لسان الدفاع بطاقة الإيداع مستندا في ذلك الى مبدأ قانوني عام وأساسي في الإجراءات مرتبط بمصلحة المتّهم الشرعيّة يتمثل في أنه لا يُضار طاعن بطعنه بمقولة ان المتهم هو الذي استأنف وحده قرار قاضي التحقيق المتضمن تجميد الممتلكات وتحجير السفر وانه لا يمكن لدائرة الاتهام أن تعكّر وضعيته بإصدار بطاقة إيداع خاصة وأنها لم تتعهّد بالقضية الا بناءا على استئنافه، فلو لم يستأنف قرار قاضي التحقيق لما تمكّنت دائرة الاتهام من النظر في الملف، وإصدار بطاقة إيداع ضده ولتمكن من البقاء في حالة سراح. فضلا على أن استئنافه كان منحصرا في قرار تجميد الأموال وتحجير السفر علما بأنّ الفصل 117 من مجلة الإجراءات الجزائيّة نص على أنّه «يجوز لدائرة الاتهام أن تصدر بطاقة إيداع ضد المظنون فيه كما يجوز لها أن تأذن بالإفراج عن المظنون فيه الموقوف بعد سماع ممثّل النيابة العمومية» وكان تعقب المتهم هذا القرار الا ان محكمة التعقيب رفضت المطلب مع الملاحظة أنّ الفصل 258 من مجلة الإجراءات الجزائيّة ضبط الاحكام القابلة للتعقيب وهي الصادرة في الأصل نهائيا وذلك بناءا على عدم الاختصاص او الافراط في السلطة او خرق القانون او الخطأ في تطبيقه. وبناءا على ذلك، فالمفروض أن يتم إرجاع الملف الى السيد قاضي التحقيق لمواصلة الأبحاث في القضية، وهناك جملة من الأسئلة المطروحة من أهمها هل يمكن تقديم مطلب في الافراج عن المظنون فيه للسيد قاضي التحقيق وهل يمكنه الاستجابة لهذا الطلب؟ لم يتعرّض المشرّع التونسي لهذه الوضعيّة بالذات ممّا يطرح إشكاليّة قانونيّة لا تخلو من صعوبة أمام الفراغ التشريعي ويتمثل الاشكال في أن دائرة الاتّهام هي دائرة تحقيق التهم وهي حسبما جاء في القرار التعقيبي الجزائي عدد 8544 المؤرخ في 27/11/1982 مكتب تحقيق من درجة عليا طبق الفصل 116 من مجلة الإجراءات الجزائية لها أن تتدارك ما تراه من نقص في التحقيق، ويرى بعضهم أنّ إصدار قرار في الافراج عن المتهم من قبل قاضي التحقيق عندما يرجع له الملف قد يبدو متناقضا مع بطاقة الإيداع التي أصدرتها دائرة الاتهام وهي أعلى درجة منه تلك هي الإشكاليّة الدقيقة المطروحة في هذه القضيّة المتشعّبة بقطع النظر عن وجاهة بطاقة الإيداع من عدمها الصادرة عن دائرة الاتهام والتي بموجبها مازال المعني بالأمر قابعا في السجن. وتجدر الإشارة الى ان المشرّع تعرّض لحالة خاصة بالفصل 88 من مجلة الإجراءات الجزائية وهي حالة معاكسة لقضية الحال تتمثل في صدور قرار إفراج مؤقت عن المظنون فيه من قبل دائرة الاتّهام بعد نقض قرار حاكم التحقيق القاضي بالإيقاف ففي هذه الصورة لا يجوز لقاضي التحقيق أن يصدر بطاقة إيداع جديدة إلّا بعد صدور قرار من تلك الدائرة في الموافقة على ذلك بعد سماع ممثل النيابة العمومية وبالتالي فان المشرع لم يتعرّض كما أسلفنا للوضعيّة موضوع قضيّة الحال مما يشكّل فراغا تشريعيا هاما، الاّ انه لا وجود لأي نص صريح بمجلة الإجراءات الجزائية يمنع قاضي التحقيق في مثل هذه الحالة من النظر في مطلب الافراج والاستجابة له اذ ان في مادة الإجراءات الجزائية بالخصوص لا يمكن الحديث عن تحجير بدون نص واضح إذ أنّه لا يمكن التوسّع في تأويل النصوص الجزائيّة خاصة المرتبطة منها بالإجراءات وبالحريّة الذاتيّة. ومن ناحية أخرى حتى في صورة استجابة قاضي التحقيق لمطلب الافراج الذي قد يتعهّد به واستئناف النيابة العمومية لهذا القرار فان ذلك يحول دون تنفيذه عملا بأحكام الفصل 87 من مجلة الإجراءات الجزائية المنقّح بالقانون المؤرخ في 22/11/1993 مع التذكير بأن النيابة العمومية ليست مستقلة وهي تتلقى التعليمات من السلطة التنفيذية حسب صريح الفصل 21 من مجلة الإجراءات الجزائية الذي نص صراحة «على النيابة العمومية ان تقدّم طلبات كتابية طبقا للتعليمات التي تعطى لها حسب الشروط الواردة بالفصل 23 ويتولى بسط الملاحظات الشفاهية بما تراه متماشيا مع مصلحة القضاء». كما أنّ الفصل 23 من مجلة الإجراءات الجزائية أعطى لوزير العدل إمكانية الاذن للنيابة العمومية بإجراء تتبعات وأن يقدّم للمحكمة المختصة الملحوظات الكتابيّة التّي يراها من المناسب تقديمها مما يخشى معه أن يحصل تداخل بين السياسة والقضاء بسبب الصلاحيات التي أعطاها المشرّع للسّلطة التنفيذيّة في التتبعات الجزائية ممّا يخشى معه ان تدخل اعتبارات سياسية في التتبعات الجزائية. على أنّ لا يمكن أن يغيب عن الاذهان معطى أساسي في قضيّة السيد نبيل القروي يتمثّل في أنّه تحصّل على عدد كبير من أصوات الناخبين ممّا أهّله للترشّح للدورة الثانية للانتخابات الرئاسية وأصبح يتنافس على منصب الرئاسة بمعية المترشح الثاني السيد قيس سعيّد وان بقاءه بالسجن يحرمه من حقه المشروع في تنظيم حملته الانتخابية وشرح برنامجه الانتخابي مما يمس من مبدأ التكافؤ والمساواة التي من المفروض أن تكون مضمونة بين المترشحين في كل الانتخابات مهما كان نوعها مما يزيد الإشكالية أهمية وتعقيدا من الناحية السياسية والقانونية نظرا للفراغ التشريعي المشار اليه وكذلك للمكانة السياسية التي أصبح يحظى بها المعني بالأمر بعد نتائج الانتخابات الرئاسية في الدورة الأولى والثقة التي منحها له جانب هام من الناخبين، وهذا معطى لا يمكن تجاهله فأصبحت القضية سياسية بالإضافة الى الإشكالية القانونية الدقيقة المطروحة فيها.