وداعا لتوافقات الضرورة، وداعا للأغلبية البرلمانية الساحقة، لتمرير المبادرات ومشاريع القوانين ومنح الثقة للحكومة… تونس في منعرج خطير لأنّ الانتخابات القادمة ستفرز، على الأرجح، برلمانا مشتتا قد يحول دون تشكيل الحكومة المقبلة. تونس الشروق: عندما حصل التوافق البراغماتي بين حركتي نداء تونس والنهضة كانت الأولى تملك كتلة برلمانية ذات 86 مقعدا في مجلس نواب الشعب فيما كانت لكتلة الثانية 69 مقعدا. بعملية حسابية كانت الكتلتان توفران 155 مقعدا أي أكثر من ثلثي أصوات المجلس ما يعني أن توافقهما الذي أملته الضرورة كان قادرا مبدئيا ونظريا على منح الثقة لأي حكومة يقترحانها وتمرير أي مبادرة تشريعية من إحداهما أو أي مشروع قانون من حكومتهما أو أي مبادرة رئاسية من رئيس الجمهورية الندائي دون الحاجة إلى أصوات بقية النواب. التوافق بين الحركتين انتهى رسميا منذ ربيع السنة الماضية وكانت من آثاره المباشرة عدم القدرة على «اختبار» الثقة البرلمانية في حكومة الشاهد، والعجز عن دفع رئيسها إلى الاستقالة، واستحالة التوافق على تركيز المحكمة الدستورية، وترحيل بعض مشاريع القوانين والمبادرات إلى البرلمان القادم... فكيف ستكون ملامح المشهد النيابي القادم؟. كتلتان لا تلتقيان ستكون كتلة النهضة القادمة بالضرورة أضعف من كتلة 2014 لأنّ الحركة لن تجمع القدر نفسه من الأصوات باعتراف أبنائها. حتى لو حلت أولى، فإنها لن تجد معها كتلة النداء القوية كما كانت قبل نحو خمس سنوات ولا كتلة «الائتلاف الوطني» ولا أي كتلة أخرى تقدر معها على تشكيل حكومة. منطقيا ستكون هناك فسيفساء من الكتل في برلمان مشتت لا يبلغ أقواها حاجز العشرين مقعدا، وقد يكون الاستثناء لكتلة «قلب تونس» المتوقع أن تتجاوز حاجز العشرين مستفيدة من مرور رئيس الحزب نبيل القروي إلى الدوري الثاني. من المفترض أن تكون هناك كتلتان برلمانيتان أقوى نسبيا من بقية الكتل هما كتلتا النهضة وقلب تونس لكن هناك حقيقتان تسترعيان الانتباه أولاهما أنّ كل كتلة منهما لن تقدر على توفير أي نوع من الأغلبية حتى لو توافقت مع كتلتين أخريين أو أكثر وثانيتهما أنهما لن تلتقيا ولن تتوافقا في ما بينهما. تحالفات هشة الأقرب الى الصورة أنّ قلب تونس لن يتحالف مع النهضة خاصة مع مواصلة اتهامها بأنّها تقف وراء إيقاف رئيسها ومرشحها للرئاسيّة نبيل القروي، والنهضة في المقابل لن تتحالف مع»قلب تونس»، وإذا فاز (القروي) بالانتخابات الرئاسية ستكون النهضة ضمن المعارضة. هذا ما أكده رئيس الحركة راشد الغنوشي خلال مؤتمر صحفي عقدته مؤخرا، قبل أن يضيف أنها «لن تتحالف مع أي حزب تحوم حوله شبهة الفساد». يبدو من سياق الحديث أنَ الحزب المقصود ب»شبهة الفساد» هو قلب تونس المتوقع أن يحل قبل النهضة أو خلفها مباشرة في مقدمة الأطراف الفائزة بالانتخابات ما يعني استحالة تكرار تجربة 2014 في التوافق بين الحزبين القويين. في مثل هذه الحالات سيجبر قلب تونس على إقامة تحالفات هشة مع الأحزاب الموصوفة ب»الديمقراطية» أو «الوسطية» فضلا عمن سيكتب له الفوز ببعض المقاعد من بين خصوم النهضة التقليديين لكن هذه التحالفات لن تكون استراتيجية ولا متينة بالنظر إلى الخلافات القائمة بين الحزب الأول والأحزاب التي يطمع في دعمها. مخاطر بالجملة لن تجد النهضة بالمقابل من تتحالف معه غير المستقلين لكننا لا نتوقع أن يشكلوا كتلة واحدة متماسكة بل كتلا متضاربة في ما بينها فلا تجد النهضة ضالتها إلا في بعض المقربين منها مثل نواب ائتلاف الكرامة. قد ينشأ معسكران برلمانيان أحدهما يدعي المدنية والديمقراطية والحداثة والتقدمية، وثانيهما يلتحف برداء الثورة ويزعم حمايتها وتصحيح مسارها دون أن ينجح أي طرف في بسط قوة ضاربة على خصمه. النتيجة جملة من المخاطر والسيناريوهات المرعبة أهمها عدم إتمام تركيز المؤسّسات الدستورية وعلى رأسها المحكمة الدستورية، وصعوبة التصويت لمشاريع القوانين مهما بدت حاجة البلاد إليها واستحالة تمرير المبادرات وخاصة منها الخلافية والدخول في أزمات سياسية قد تؤدي إلى شلل البلاد… قد تحتاج الحكومة القادمة (مهما كانت هويتها وتركيبتها) إلى معجزة حتى تنال ثقة البرلمان، وإذا نالتها فسينتظر خصومها معجزة أخرى لسحب الثقة منها… بلغة أخرى نحتاج إلى معجزة لنشهد إنجازا برلمانيا أو خروجا من الأزمة الخانقة لكن أملنا الوحيد أن المستحيل ليس تونسيا. سيناريو الغنوشي حذر رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي من سيناريو «نجاح سعيد في الرئاسية وحزب القروي (قلب تونس) في التشريعية. وأوضح الغنوشي خلال ندوة صحفية عقدتها حركته مؤخرا أن «هذا السيناريو لن يعين على تحقيق أهداف الثورة» لأنه سيفرز تصادما على رأس الدولة على حد رأيه. الظاهر أن رئيس النهضة اختار السيناريو الملائم ليحث الناخبين على التصويت لسعيد في الرئاسية وضد منافسه المباشر حزب القروي في التشريعية، لكن يكفي أن نخرج الموضوع من إطاره الانتخابي لنقف عند عدد من السيناريوهات المدمرة. السيناريو الأول هو ما ذكره الغنوشي ما يعني حصول تصادم بين الرئاستين يتردد صداه تحت قبة البرلمان بين داعمي كل رئيس منهما. السيناريو الثاني أن يفوز القروي بالرئاسية وأن تؤول الغلبة البرلمانية ورئاسة الحكومة إلى النهضة أو المستقلين. السيناريو الثالث ألا يجد الرئيس القادم أغلبية برلمانية تساعده على تمرير مبادراته فيصبح مجرد طرطور لا يقوى إلا على بعض التعيينات وإدارة ملفي الأمن القومي والعلاقات الخارجية. السيناريو الرابع ألا تجد الحكومة ظروفا ملائمة للعمل ولا يجد البرلمان سبيلا لسحب الثقة منها ولا يجد رئيس الجمهورية القدرة على تطبيق الفصل 99 من الدستور (طلب التصويت على الثقة للحكومة)... على أن النجاة لا تكمن فقط في فوز سعيد بالرئاسية ومؤيديه بالتشريعية بل أيضا في فوز القروي بالرئاسية وحزبه بالتشريعية.