جُبلت النفوس على الاختلاف، وتعدُّد وجهات النظر، ومن طبيعة البشر أن يتمسك كلٌّ برأيه ويتعصب له، إلا أن للشيطان في ذلك مداخلَ لإفساد ذات البَيْن، حيث يوسع رقعة الاختلاف، حتى يكون شقاقا ونزاعا، وينفخ في الآراء، حتى لا يرى أصحابُها الصوابَ إلا فيها، ومن ثَم تتكوَّن المشكلات بين الناس، وتنشأ في دنياهم قضايا ورزايا، من قتلٍ وإزهاقِ أرواحٍ، وتعدٍّ على الأموال، وهتكٍ للأعراض. وقد تتجاوز الخلافات الأفراد لتبلغ الأُسَر، وقد تزيد فتصل إلى القبائل، ومن ثَمَّ يجيء الإصلاح بردا يطفئ لهيبَ الخلاف، وعلاجا تسكن به حرارةُ النزاع، وسلاما تدفن به العداوات، فتجتمع القلوب، وتأتلف الأفئدة، وتسكن النفوس، وتزول الوحشة، ويذهب غليان الغضب، وتخمد فورة التعصُّب، ويدخل الرضا على المتخاصمين، ويعود الوئام إلى المتنازعين. ولقد جاء في كتاب الله وسنَّة رسوله ﷺ منَ الترغيب في الإصلاح والحث عليه، ما بمثله تقوى العزائمُ على فِعْل الخير، وتتشوف النفوس لبذل المعروف، قال الله تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ [النساء: 114]، وقال سبحانه: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ [النساء: 128]، وقال جل وعلا : ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾ [الأنفال: 1]، وقال عز شأنه: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الحجرات: 10]، وقال ﷺ: «كل سُلامى من الناس عليه صدقةٌ، كل يومٍ تطلع فيه الشمس: تعدل بين الاثنين صدقةٌ، وتعين الرجل في دابته، فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقةٌ، والكلمة الطيبة صدقةٌ، وبكل خطوةٍ تمشيها إلى الصلاة صدقةٌ، وتميط الأذى عن الطريق صدقةٌ»، وقال ﷺ: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟»، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (إصلاح ذات البين)، وعن أنسٍ رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال لأبي أيوب: «ألا أدلك على تجارةٍ؟»، قال: بلى، قال: «صِلْ بين الناس إذا تفاسدوا، وقرِّب بينهم إذا تباعدوا». ولقد بلغ من محبة الإسلام للصلح أنْ أجاز من أجله الكذبَ والتوسُّع في الكلام، قال ﷺ: «ليس الكذاب الذي يُصلح بين الناس، فينمي خيرا، أو يقول خيرا»، وقال عليه الصلاة والسلام: «لا يَصلُح الكذب إلا في ثلاثٍ: يحدث الرجل امرأته ليرضيَها، والكذب في الحرب، والكذب ليصلحَ بين الناس». وقد حرَص رسول الله عليه الصلاة والسلام على الصُّلح، وسعى فيه، وباشره بنفسه، فعن كعب بن مالكٍ أنه تقاضى ابن أبي حدردٍ دَينا كان له عليه في عهد رسول الله ﷺ في المسجد، فارتفعتْ أصواتُهما حتى سمعها رسول الله ﷺ وهو في بيتٍ، فخرج رسول الله ﷺ إليهما، حتى كشف سجف حجرته، فنادى كعبَ بن مالكٍ، فقال: (يا كعب)، فقال: لبيك يا رسول الله، فأشار بيده أن ضع الشطر، فقال كعبٌ: قد فعلتُ يا رسول الله، فقال رسول الله ﷺ: (قُم فاقضِه). وعن سهل بن سعدٍ رضي الله عنه أن أهل قباءٍ اقتتلوا حتى ترامَوا بالحجارة، فأُخبر رسول الله ﷺ بذلك، فقال: «اذهبوا بنا نصلح بينهم»، وعنه رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ بلغه أن بني عمرو بن عوفٍ كان بينهم شرٌّ، فخرج رسول الله ﷺ يصلح بينهم في أناسٍ معه...» الحديث، وفيه أنه ﷺ تأخَّر مِن أجل ذلك عن صلاة الجماعة، على أهميتها وعظم مكانتها. الخطبة الثانية في مجتمعنا كما في غيره مشكلاتٌ، وهنا وهناك مصلحون، ولدى الناس للصُّلح وسائلُ وأساليبُ، وتراهم يسلكون من أجله كثيرا منَ الطُّرُق، غير أن هذا العمل الصالح الجليل، الذي كان من تمام الديانة ورجاحة العقل أن يبادر به وتسهل أموره، اتَّخذ لدى كثيرٍ من الناس مسالكَ أخرى، فيها من التعقيد والتأخير الشيء الكثير، وقُصدت به مصالح ذاتيةٌ دنيئةٌ، خارجةٌ عن أهدافه النبيلة، ومقاصده السامية، فجُعل وسيلة للفخر، وإعزاز النفس، وإبداء الرفعة، وإهانة الطرف المقابل، وإرغامه وإذلاله، وتكليفه ما لا يطيق، والإثقال عليه بما لا يحتمل، والسلوك به في مسالك وعرةٍ ملتويةٍ، إنَّ الإصلاح عزيمةٌ راشدةٌ، ونيةٌ خيرةٌ، وإرادةٌ مصلحةٌ، وابتغاءُ ثوابٍ، وحقنُ دمٍ، وقطعُ عداواتٍ، يقوم به لبيبٌ عاقلٌ متزنٌ، مخلصٌ لله، طالبٌ ما عنده من الأجر، يسرُّه أن يسود الوئامُ بين الناس، لا تدفعه أهواءٌ شخصيةٌ، ولا يرتقب منافعَ دنيوية، لا يقصد بإصلاحه الترؤس والرياء، وارتفاع الذكر والاستعلاء، وإنما همه مرضاة الله وإصلاح ذات البين، ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرا عَظِيما﴾ [النساء: 114]. وحين يترقى أصحاب المروءات من المصلحين الأخيار، ليبذلوا من أوقاتهم، ويغرموا من أموالهم، ويصرفوا جاههم، ويريقوا ماء وجوههم، فقد قدَّر الإسلام لهم مروءتهم، وحفظ معروفهم، ولم ينسَ لهم حُسناهم ولا جميلهم، فجعل لهم في الزكاة نصيبا، لئلا يجحف بهم إصلاحهم وبذلهم، قال سبحانه: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَة مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 60].