بعد وفاة الرئيس تداخلت العديد من المواعيد واضطربت، والموجة الانتخابية التي كانت بعيدة اقتربت وأغرقت واكتنفت الجميع، ورشحت بصفاتنا. لافتات في كل مكان عن صكّ النقود لاشتراء العرش والانتخابات الخيانة (Elections=Trahisons) وتفاؤل الإرادة. ضباب اضطراب رُهاب. أيَكُون حشرٌ بلا حساب.. ما جدوى القيامة إذن؟ يتملّكه فضول حزين ليعرف لِمَ يعطون أصواتهم للكافرين بهم؟ والذين لا ينتخبون ما شأنهم؟ لعلهم يرون شيئا لا يراه. ليس لديه خيار إلا أن يكلّمهم ويحاورهم ليراهم، ليفهم ما اعتراهم. سار وسطهم ليشمّ ريحهم، وتقدم من بعض المعتملين وقال كالذي يلقي كلاما لا يعنيه: تدعو الدولة إلى الاكتئاب العام أياما. أمسك، قاطعه أحدهم، الدولة تدعو إلى الاكتتاب العام في الانتخابات. إذا كانت الدعوة إلى الاكتئاب فسنعلم من الآن أنه مرض وسنعمل على الشفاء منه والانسحاب من كل انتخاب يفيدهم ولا يفيدنا، أما إذا كانت الدعوة إلى الاكتتاب فسنظن كالعادة أنه شيء حسن وسننتبه بعد انقضاء المدة أنه ليس كذلك. فلِمَ لا نبدأ من الآن بالاستطباب من الاكتئاب. لِمَ لا تذهب لتفعل شيئا مفيدا؟ ألست أفعل. أنا الآن أكتب مقالا عنك، وأستدرجك للحديث معي عن نفسك وعن مخاوفك وأحلامك، وكل كلمة لك معي هي مساهمة فيما أكتبه. قل شيئا. هل سينشر المقال؟ نعم. ويقرأه الناس؟ نعم. ويعجبهم؟ ويحك قتلتني. إنك، بتردّدك، أشد فتكا من أعدائك بك. قل شيئا، وإذا كنت صادقا فسيعجبهم. إذا لم تكن الانتخابات من أجل تحسين حياة الناس فلا جدوى لها. هَهْ. فكيف نحسّن حياة الناس، ما الذي يمكن أن نسمّيه تحسينا لحياة الناس؟ أن نفعل شيئا من أجلهم، من أجل مصلحتهم. مصلحة من؟ الأفراد أم الجماعات أم المجتمع كله؟ مصلحتهم، كُلّهُم، عُمُومُهم. ألا يتحدث السياسيون والمثقفون عن مصلحة عامة في الكتب. فكيف نحدّدها، على أساس ماذا؟ أم هي مسلمة محددة. على رسلك، أصبحا سؤالين وأنا لم أقدر على واحد فكيف باثنين. هو سؤال واحد في وجهين. ما هي المصلحة العامة ومن يحددها. كانت مارة حذوهما وانتبهت إلى حديثهما فتوقفت. أعجبها الكلام لعلها، أو طريقة طرحه "السقراطية"، اقتربت منهما أو منه وقالت: هل تراقصني؟ بالكاد استدار، ودون حتى أن ينظر إليها، وهو يحاول ألا يكون فجّا بقول لا، أجابها: ليس هناك مرقص. قالت مصرّة: المرقص للنخبويين ليحدّ من تمدّدهم، أما نحن الشعبويين فنرقص أينما نشاء ووقتما نشاء، لأننا الشعب. أعجبه كلامها، وكأنما أحسّه مختلفا أو ذكيا أو واثقا أو جميلا. يبدو أنها بعثرته. التفت إليها ليراها، نعم، كانت جميلة كالحياة، وفوق ذلك. قطعت عليه فكره واعتماله ودون أن تترك له مجالا حتى للارتباك سألته: في ما كنتما تتحدثان؟ ألا تعرفين! فلِمَ طلبتِ المشاركة إذن. أجابها. لقد أعجبني الحوار وطريقة بسط الموضوع، ولكن بدا لي أنك أنت من يتحكّم في الحديث، فمن أعطاك هذه السلطة؟ نطق الآخر كالمستغيث: اسأليه. هو يفرض نفسه عليّ ويقول أنه يريد أن يكتب شيئا معي ولكني أشك. أظن أنه يدبّر أمرا من خلالي. أنا صاحب المقال ولي الحق أن أوجّهه كيفما أريد. ولكن لِمَ لا نتجاوز هذه الجزئية ولو وقتيا ونعود إلى الحوار والفكرة التي كنا فيها. فليكن، وأنا معكما في الحوار. قالت هي. أنتِ يمكنك أن تشاركي معنا بشرط ألا يحيل ما نخوض فيه على فائدة لك. باسم السلطوية؟ باسم المصلحة العامة التي لا يمكن أن تكون نخبوية. فقد أجبت بلسانك على جزء من السؤال الذي طرحتَه. ما فهمتِه صحيح ولكنه يحتاج إلى توضيح، فما رأيك أنتَ؟ أي شيء لا أفهمه أنا غير صحيح وغير موجود. قلتما أن المصلحة العامة لا يمكن أن تكون فئوية أو في خدمة جزء فقط من الشعب، فما تقولان في بحيرة موجودة في مكان ما ولا يستفيد منها للفلاحة والسقاية إلا أهل ذلك المكان، أو طريق موجودة في مكان آخر جنوبا أو شمالا ولا يستفيد منها إلا المارّون من هناك، وجماعات وضع اليد والحفريات وغيرهم.. وكل هؤلاء أجزاء من كلّ أو فئات تستفيد حين لا يستفيد غيرها، فهل يدخل ذلك النفع الذي عاد عليها في خانة المصلحة العامة؟ إن قلنا نعم أقررنا بفائدة يمكن أن تحصل لمجموعات خارقة للقانون مثل الكارتيلات ذات الشبهة والأليقارشيا، وإن قلنا لا أنكرنا حق الشعب أو حقوقه بعموم فئاته المختلفة. فمن يحدد ماذا؟ وكيف؟ قالت كالمحتجّة: كأن الحديث غدا استجوابا ولم يعد حوارا، وأنا وحدي من يجيب عن التساؤلات. لِمَ لا تجيب أنت عن بعضها؟ أنا صاحب المقال وكنت أريد أن أعرف رأيه في بعض الأشياء وأنتِ تدخّلتِ لتشاركي. ردّ الآخر موضّحا: قال إن كلامي معه مساهمة في المقال وسيفيدني وغدا كأنه يستنطقني. قلتُ إني أريدك أن تعبّرَ عن نفسك. فلِمَ لا نعبّر كلنا عن أنفسنا، فإن كنتُ أعبر عن طيف فأنتَ تعبر عن الطيف الآخر. وسنرى من يستطيع أن يتجاوز طيفه وضيقه وفائدة تعود فقط عليه هو وفئته إلى خير يمكن أن يكون للشعب كافة وللوطن. قالت هي. والمقال؟ سنكون كلنا داخل المقال، والقارئ معنا، ولعل صديقك رئيس التحرير سيكون سعيدا أكثر بالصيغة الجديدة، ويمكن أن يشارك فيها إن أراد. فهل هناك فائدة لذلك؟ الفائدة تكون لنا كلنا، نحن المتشاركون في المقال، بإبداء رأينا حول طريقة صياغته ومضمونه. هذا الكلام غير صحيح، قال الآخر. هل أرغمكَ أحد على شيء؟ لقد كنتَ وأنت تتكلم حرا مستقلا سيد نفسك. تقريبا. يا رجل! أنا أيضا أشهد أنك كنت حرا ولم يرغمك أحد على شيء. قالت هي. ولكنه هو من اختار الموضوع. أنا صاحب المقال. لقد قتلتنا بهذه الكلمة وأنت تستغلها لتستبدّ. ألستُ كذلك، أوَلَمْ أكن أنا من بادءك بالحديث واقترح عليك المساهمة في الحوار ثم لحقتْ بنا هذه. وقد اتفقنا بعد ذلك أننا كلنا أصحاب المقال. و"هذه" معه فيما يقول، فنحن إذن أغلبية. قالت هي. هل يمكن للأغلبية أن تستبدّ. أنتما تصادران حقي في إدارة الحوار وحرية التعبير. حرية التعبير وإدارة الحوار لنا كلنا وليست لفئة دون أخرى. قالت هي. ومع ذلك فأنتما تنسيان شيئا، أو بالأحرى هو ينساه. ما هو؟ لما كنتُ استدرجكَ في الحديث وطلبت منك أن تقول شيئا، قلتَ: إذا لم تكن الانتخابات من أجل تحسين حياة الناس فلا جدوى لها. وبدأنا من هناك الحديث عمّا يمكن تسميته تحسينا لحياة الناس وعن المصلحة العامة. فأنت إذن من اقترح موضوع الحديث ونسي، أو لعلك إذ فعلتَ ذلك لم تكن واع.