أتمّت عائشة أشهر الحمل التسعة، لكنّ المولود رفض النزول إلى العالم، شيء ما جعله يأبى خوض تجربة الحياة. اضطرّ الأطبّاء إلى إجراء عمليّة قيصريّة على الأمّ في الأسبوع الأول من الشهر العاشر خشية أن يفارق الجنينُ الحياة. لم تكن عائشة تعرف جنس المولود، لا لعدم توفّر التقنيات الطبية الحديثة التي تخوّل لها معرفة ذلك، ولكن حتى لا تصاب بالقهر طيلة فترة حملها خاصّة أنّ حماتها لم تكن تترك فرصة إلا وانتهزتها لتبيّن لها أنّ خلفة الذكور خير من خلفة الإناث. يوم الولادة، كانت عائشة تصيح بصوت مرتفع بسبب آلام المخاض، لكن سرعان ما خبا صوتها بعد أن تمّ تخديرها وإجراء العملية القيصريّة عليها. كانت فرحة عائشة لا توصف حين استفاقت من التخدير ورأت طفلتها بجانبها بشعرها الأسود الفاحم الغزير. انتبهت عائشة إلى قسمات وجه حماتها فرأت عبوسا غطّته بابتسامة باهتة حاولت أن تداريه بجملة قصيرة: «أجمل ما فيها شعرها». سمّوها جميلة... بدأت جميلة تكبر شيئا فشيئا، وبدأت قسمات وجهها الصغير تظهر، بعينين سوداوين صغيرتين وفم صغير مثل الخاتم وبشرة سمراء تشبه بشرة أمها عائشة، وجسم نحيف جدا وشعر أسود ظلّ يطول ويطول مع الوقت بشكل لافت للانتباه. كان كلّ من يراها يبتسم لها ثمّ يقول الجملة التي حفظتها مع مرور السنين: «أجمل ما فيك شعرك». ظلّت هذه الجملة تطارد جميلة في المدرسة ثمّ في المعهد ثمّ في الجامعة ثمّ في العمل، إلى أن التقت بفارس أحلامها. رآها ذات يوم وهي تغادر مقرّ عملها في اتجاه بيتها القريب منه، تبع خطواتها إلى أن أدركت منزل والديها. تشجع واقترب منها قائلا: مرحبا، أنا طارق، مهندس فلاحي، رأيتك وأنت تخرجين من مقرّ عملك فتبعت خطواتك ولي نيّة طيّبة في التعرّف عليك. بادلته التحيّة، ثمّ دخلت بسرعة إلى المنزل. كان طارق جادّا في طلبه، فبعد يومين فقط من التقائه بها، بعث والدته إلى منزلها لكي تخطبها له. سأل والدته عن رأيها فيها، فأجابته بامتعاض قائلة: أجمل ما فيها شعرها لكن طارق لم ينظر إلى شعرها، نظر إليها نظرة عاشق محبّ، رأى فيها زوجته المستقبليّة التي سيكوّن معها أسرة مستقرّة عنوانها الحبّ والوفاء. وتمّت الخطبة، وتمّ الزفاف... كان كل من يراها يقول نفس الجملة المعهودة: «أجمل ما فيها شعرها»، لكن طارق لم يكن ليعيرهم اهتماما، فقد أحبّ جميلة كلاّ بشخصها وشخصيّتها فقد كانت بالنسبة إليه تمثّل كلّ نساء العالم. أنجبت جميلة بنتين وولدا، فصارت سعيدة جدا بأسرتها الصغيرة. كبر الأبناء وكانوا يشعرون بسعادة غامرة كلّما أطلقت والدتهم شعرها الأسود الطويل للرياح تتقاذفه يمينا وشمالا، فكانوا يقولون لها دائما: «ما أجمل شعرك يا أميّ». مرت سنوات وكبرت جميلة وتساقط شعرها الطويل شيئا فشيئا، فصار تغطّي رأسها كي لا يظهر الفراغ الذي خلّفه الكيمياوي على فروة رأسها. وحده طارق الذي بقي يقول لها دائما: أجمل ما فيك يا جميلة أنك جميلة في كلّ حالاتك». أمّا جميلة فقد كانت سعيدة بالحياة التي رفضتها حين كانت في بطن أمها تأبى الخروج.