إذا كنت قارئا عاديّا بسيطا وأخلاقوِيّا اعْتاد النصوص المدرسيّة التي تتحدّث عن زقزقة العصافير والسماء الزرقاء جدّا فلا تقرأْ هذا الأثر. أجمل الذنوب سيرة روائيّة. والسيرة الروائيّة غيْرُ السيرة الذاتيّة. ففي حين يهْفو كاتب السيرة الذاتية إلى أن يكون أمينا قدر المستطاع ومُوثّقا لأحداث قد عاشها كما هيّ بالضبط فإنّ كاتب السيرة الروائيّة يُعيد إنتاج مجموعة من الأحداث "الحقيقيّة" بشكل مختلف عمّا جرت عليه في الواقع فيُضْفي الكثير من الخيال والمبالغات والتحريفات والشّطحات هنا وهناك لأسباب دلاليّة وجماليّة وغير ذلك... والرّاوي ليْس الكاتب بالضرورة... فالراوي هوّ من يرْوي الأحداث أمّا الكاتب فهْو من يكتبها . قد يكون الراوي هوّ الكاتب نفسه وقد يكون جزءا من شخصيّة الكاتب وجانبا من جوانبها كما قد يكون الراوي شخصيّة مُبتدعة وخياليّة لاوجود لها في الواقع أصْلا. "أجمل الذنوب" نصّ لايمنح معانيه وعوالمه بسهولة. فعلى القارىء أن يكون عميقا ومجنونا ومثقفا بما يكفي حتى يستطيع تقرّي معانيه ومُجاراة هديره. إن لم تكن قد قرأت الكثير من الروايات الحقيقيّة ولم تكن مطّلعا ولوْ قليلا على علم النفس ولم تكن ذا ميْلٍ إلى التأمّل أوْ ذا إحساس غزير بالأشياء وبالوجود ولم تكتشف ولوْ مرّة واحدة المتعة الخفيّة في الخسران ولم تتمرّد ولم تُجدّف لن تستطيع فهْم هذا الأثر الأدبيّ. "أجمل الذنوب" نصٌّ قد لاتُحبّه ولكنّه سيُربِكُك، بلْ قد تتبرّأُ منه لأنّه يُرْبِكُك، يُعرّيك ويضعُك أمام المرآة وجها لوجه مع مخازيك وهشاشاتك وضُعفك وأيضا مع جنونك الخفيّ ورغباتك المجنونة التي تُكبتها دائما خوفا من الآخر وخوفا من نفسك أيضا ... هوّ نصّ جريء مُتهتّكٌ. والجُرْأة ليست مزيّة في ذاتها كما أنّها ليست عيْبا في ذاته بل تكمن مزاياها أوْ سقطاتُها في مدى دوْرها الوظيفيّ داخل النصّ وفي مدى ما استطاع أنْ يقوله الكاتب من خِلالها من أفكار واسْتيهامات وأسئلة.... الجُرْأة مسألة حاضرة في أدبنا العربي القديم بشكل لافت للإنتباه وبطريقة مُشِطّة حدّ الإحْراج. فأثر عالميّ مثل " ألف ليلة وليلة " فيه من التهتّك والمُجون والفِسْق والإباحيّة ماقد لانجده في أدبنا الحديث بما في ذلك أجمل الذنوب. فدعْك عزيزي القارىء من الإفتراءات والأحكام الأخلاقويّة المسبقة وكن جديرا بذنوب الراوي وتطْوافاته وحمْحماته وصراخه وعُوّائه . في هذا الأثر السماء ليست زرقاء بل مدْلهِمّة مكفهِرّة عابسة والعصافير ليست مُزقزقة بل لاأثر لها أصلا... إنّ العالم في "أجمل الذنوب" ليْس متناسقا وأليفا كما اعتدْته في النصوص المدرسيّة البسيطة بل مُرْتجّا مخلْخلا ومقلوبا على رأسه.وليس مطلوبا من الكاتب، كاتب الأدب، أن يجمّل لنا العالم أوْ يُغطّي عيوبه بمساحيق وأقْنعة مُضحكة.... والأدب الحقيقيّ هوّ أن نكتب بعمق... لايهمّ ماذا نكتب بقدْر مايهمّ كيْف نكتب. والأديب ليْس مطلوبا منه أن يُجمّل ويُزيِّف ويُزخْرِف بلْ أن يكتب بصدق وعمْق معا. إنّ الهاجس الأساسيّ في "أجمل الذنوب" هوّ الموْت... الموْت هوّ السؤال المركزيّ المُروّع، وفي فلكِ هذا السؤال كانت تدور جميع الأحداث والتأملات والخواطر بطريفها وعميقها وسطحِيّها وعجيبها وغريبها ... والرّاوي يبدو شخصّية مركّبة معقّدة كثيفة الأبعاد . يبدو مُمزّقا مُعذّبا ويبدو مُبتذلا وعميقا في آن، روحانيّا وشهوانيّا، هازِلا وجادّا، عميقا وسطحيّا. وربّما يبدو مريضا عُصابيّا . وربّما يبدو أكثر من ذلك... إنّه مُشوّش ومُشوّهٌ..وهو أيضا مُتصوّف متزهّد ... هوّ ممزّق بين الجسد والروح، بين الأرض والسماء وبين الواقع والخيال تمزّقا محموما. إنّه دغْلٌ من المعاني والدلالات والأفكار المحمومة المتصارعة..كأنّّ الراوي كلّ الناس أوْ كأنّ في قلبه يحيا كلّ البشر بتُقاتهم وزُناتهم ومتزهّديهم ومُجّانهم ولُطفائهم ومارقيهم... لذلك قد تعيش نحوه انطباعات متضاربة ومواقف متصادمة. ..فقد تزْدريه وتمْقُتُه وقد تشفق عليه وقد تُعجب به وتتأثّر... وقد تبكي بعد الإنتهاء من قراءة الأثر ولاتدري لماذا..! أغلب شخصيات أجمل الذنوب شخصيات ملْعونة متوتّرة وصِداميّة مع كلّ شيء حتى مع أنفسها. تبدو للوهْلة الأولى شخصيات ماجنة عابثة ولكنّك لايمكنك أن تنفي عنها كوْنها شخصيات مثقفة غزيرة المطالعة وأيضا كوْنها شخصيات قلقة تميل إلى التأمّل. وربّما قد طفى على النصّ جانب النّزق والإبتذال واللّهو والمُجون أمّا العُمق فقد حضر ومْضا وخطْفا وإيجازا... العُمق حضر من خلال تشبيه أو جملة قصيرة أوْ تعليق أوْ وصْف أوْ حوار عابر أوْ حضر مُنْدسّا داخل ماقد يبدو للقارىء البسيط ابتذالا ومُجونا.... ولكنّ المُجون، على كثْرته، هوّ قِشْرة في شخصيّة الراوي وليْس أصلا.... فمْن كثْرة العُمْق نتحوّل في أغلب الأحيان إلى سطحيّين ومُهرّجين. أكبر رهان في"أجمل الذنوب" كان اللّغة. فهي لغة عجيبة لاتقلّ عجبا عن شخصيّة الراوي نفسه. إنّها لغة مُكثّفة استعاريّة ومائيّة... لغة مُدهشة استطاع الكاتب أن يُروّضها ويقول بها ماقد لايستطع أحد غيره أن يقوله. أجمل الذنوب نصٌّ يُحَسُّ لأنّه نصّ يخاطب خلجات الروح ودهاليز النفس البشريّة ومافيها من تعرُّجات . وهْو ليْس نصّا عاديّا بلْ صرْخة، عُوّاء، تجْديفا ونُدْبة... نصٌّ يتيم، عاقٌّ ورجيم... وإذا كنت خلوقا جدّا ومتصالحا مع ذاتك ومع العالم فأرجوك لاتقرأْ هذا الأثر ..