لقد عرف الكاتب محمود بلعيد بهذه النزعة المكانية في أدبه فهو يأتي على الأمكنة بتفاصيلها وعطورها الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تستنبطها ليقودها الى متن قصصه بكثير من الألفة والحسرة على سبيل القول بالذاكرة وهو يعي ان هذا الزمن صار بلا ذاكرة فالعولمة تسعى لقتل الخصوصيات وما هو حميمي في حياة الناس... إن الأدب مع محمود بلعيد لعب آخر وبوعي حيث يلعب الكبار على تدنيس الأمكنة وثقب الذاكرة وتعميم الرداءة حتى يصلح الحكم الذي تروج له الآلة التي بانت أدوارها والقائل «بلا جدوى الأدب وكل شيء يمضي باتجاه العولمة ويجب نسيان الماضي ولا قيمة للخصائص والخصوصيات... والجميع سواسية أمام من يهيمن على الآخرين والمجد الآن للكمبيوتر ولا بد لك من فايس بوك... والمجال لم يعد للكتاب او القراءة... التقليعات والسراويل الميداعية... الكرة... المزود... » هذه بعض نتاجات العولمة التي لونت العوالم بلون واحد... . ولكن ذلك لن يحصل أمام الأدب الذي يكشف ما يكشف من عورات الحضارات والعولمات والزيف حين يستبد الكائن بأخيه الكائن... في حب من نوع خاص تصرخ الكلمات والقصص في هدوء صاحبها... كل ذلك يحدث بوجهه القبيح والزائف وكل الذين يقفون خلف هدم الذاكرة بفعل الجهل والمادة والكسب السريع. إن شخصيات هذه المجموعة القصصية قوية في صمودها أمام الذين يغتالون الذاكرة... وأمام الموجة الجديدة التي يسعى أصحابها ومنظروها الى تهميش الآداب والفنون وأدوارها المهمة في النسيج الاجتماعي والثقافي... ان هذه الشخصيات التي نجح محمود بلعيد في تقديمها الينا في هذه المجموعة القصصية وغيرها، على غاية من الوعي والسخرية تجاه ما يحدث الآن... ونذكر بعض ذلك في قصة «وتوقفت الجنازة»... هذه القصة ذات الرمزية العالية التي شأنها شأن بقية القصص الأخرى... وشخصية الدبسي تقول الكثير الذي نراه مهما لأمراضنا اليوم... مرة أخرى يأخذنا الأديب محمود بلعيد الى حيّز من مراراتنا وأشجاننا وجهلنا ونحن نغمض العيون تجاه حقائق الأشياء في واحة يغمرها الزيف والغثيان... «كانت تلك الأيام بداية انفتاح عيني على الدنيا وانبهاري بما حولي ومن حولي... بدت لي الحياة مبهرة بين أمي وأبي في بيتنا الرحب... . ها هي الذكريات تعود مجزّأة غير كاملة... . الجميل منها والمحزن والمحبب للقلب والفؤاد... . أدرك الطبيب بخبرته أن الرجل أصيل لكن خانه الدهر والدهر خؤون وأدارت له الأيام ظهرها... لقد تقدمت بك الأعوام الى أن شخت وانتهت بك الرحلة الى عالم الموت والنسيان... ها قد عدت اليك بكل ما أحمل من حب وذكريات... . فدونت منها ما دونت على هذه الصفحات...». لست أدري بالضبط ما هو السر الدفين الذي تتوفر عليه هذه الشحنة السردية (وأعني بالسر السحر) لدى هذا الكاتب الذي كلما أهداني اصداره الجديد أمضي معه بقراءة فيها الكثير من الفوضى لأتحسس وفاء الكتابة لسياق كاتبها الذي عرف به منذ أعماله الأولى... ثم أعود بعد ذلك الى القراءة المتأنية والعاشقة أيضا.. أولا الكاتب الذي أعنيه هو محمود بلعيد وثانيا، السؤال الذي طرحته يتكرر مع كل مؤلف جديد من مؤلفاته... هذا الأمر حصل مع المجموعة القصصية للأديب محمود بلعيد والممهورة بحب من نوع خاص. أذكر أننا تجولنا ذات ليلة صيف وتحدثنا كثيرا ونحن نجوب شوارع وأزقة العاصمة التي فرغت الى حد ما من ضجيج الوافدين والمزعجين والمفتعلين للغط واللغو والهراء وقلة الحياء والحياة والأدب... كان الحديث قد فاض بما هو حميمي بالنظر لما افتقدناه من ميل نحو الجذور والأصل وجوهر الأشياء والقيم حيث حل الزيف والوهم والبهتان والتافه وباختصار «الكاملوت»... عمت الفوضى وامتلأت الأرجاء (بالمزروبين) بالمسرعين وضاعت الحميمية بين الأرجل التي تحدث ضجيجا لإيهامنا بالحركة وبالعمل وبالعطاء... إنها لحظة فارقة حيث يعبث الصغار بلحية خالي هشام غير عابئين بهيبته وجراحاته وهواجسه وخساراته ولكن أب الأطفال الطبيب أدرك بخبرته أن الرجل أصيل و... . (ولكن الأيام... ). هذه المجموعة القصصية للأديب محمود بلعيد كانت وفية لسياق تجربته السردية التي عرف بها منذ «أصداء في المدينة» ثم «عندما تدق الطبول» و «القط جوهر» و «عصافير الجنة» وصولا الى «شكرا ايها اللص الكريم»... . أما هذه النصوص التي تضمنتها المجموعة التي نحن بصددها وأعني «حب من نوع خاص» فإنها قد تميزت بعوالمها المتناقضة والمتقلبة ولكنها عوالم ثائرة في هدوء... هو هدوء متعة الحكي والكتابة والتذكر... والثورة هنا هي إبراز الأحوال البسيطة والجميلة والوديعة والمتأنية والحالمة... التي غادرتنا بفعل أننا غادرناها أولا وذلك مع هذا الهبوب الفاحش لرياح العولمة حيث غدت البسمة مبرمجة والأزقة من نهج بومنديل الى غيره مكتسحة من قبل جحافل حوانيت وباعة «الكاملوت»... هذا النهج الذي كان يعرف «بباعة التوابل والفلفل الجاف والفواكه الجافة.. «كما جاء في القصة التي عنوانها حب من نوع خاص وهو عنوان المجموعة: «...العمارة قديمة، نهج ضيق مغمور ذي اسم قديم منذ عهد الاستعمار، نهج البرنيطة،.. هكذا يسمى نهج البرنيطة ويفتح هذا النهج الصغير على نهج سيدي بومنديل..».