لقد استمعتُ لكلّ ما قيل عن برنامج النهضة الذي تَتَسَوَّقُ به هذه الأيام بحثا عن من يقبل هذه البضاعة ويرضى بها ليساهم مع النهضة في تشكيل حكومتها بعد أن كانت الأولى في انتخابات 2019 بدون أن تحصل على ما يؤهّلها لممارسة الحكم وحدها لأنّ عليها أن تبحث عن 109 مقاعد أي خمسين زائد واحد من المقاعد في حين أنّها لم تحصل إلّا على 52 مقعد إذن فالقول بأنّ النهضة فازتْ بالانتخابات كلمة مبالغ فيها لكنّها كانت الأولى في عدد المقاعد التي فازت ْبها وهذا ما يؤهّلها حسب الدستور لتكوين الحكومة وبوضوح كامل هذا هو الذي وضعها في المأزق الذي تتخبّط فيه اليوم ولا أرى لها منه مخرجا إلّا بالتنازلات والتقارب لا بالمراوغات التي حفِظَتْها عن ظهر قلب الأحزابُ التي لا مفرّ للنهضة من التوافق معها . كما استمعتُ لكلّ الجهات التي اتّصلتْ بها النهضة هذه الاتّصالات التي تنعتها النهضة بأنّها غير رسميّة بحثا عن قبول التوافق معها لتشكيل الحكومة لكن أغلب هذه الأحزاب عبّرتْ بصيغ مختلفة عن عدم الاستعداد للحكم معها أي في حكومة ترأسها النهضة. إنّ البرنامج الذي تتسوّق به النهضة اليوم مُتجوّلة من مكان لمكان هو ليس برنامجها الانتخابي الذي تقدّمتْ به للناخبين لتنال أصواتهم –وفي هذا تلاعب بالناخبين- بل هو برنامج وضعته على مقاس رغبات مفاوضيها وقد حاولتْ من خلاله دغدغة مشاعرهم فلم تترك النهضة- في البرنامج الذي تتقدّم به للأحزاب ميدانا من الميادين الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي تلفظ اليوم آخر أنفاسها – إصلاحا إلّا ووضعتْ له تصوّرات ومقترحات مُؤكّدةً أنّ لها حلولا لكلّ مشاغل البلاد رغم أنّ هناك إجماعا من خبراء الاقتصاد بمختلف مشاربهم السياسيّة وتوجّهاتهم الإديولوجيّة على أنّ وضع تونس اليوم يتطلّب سنوات لتشعر البلاد بانتعاشة وتوضع على سكّة الإصلاح. أوّل إطّلاع رسمي كان لي مع برنامج النهضة يوم الجمعة 1نوفمبرعندما صدر في جريدة الشروق فقرأته قراءة أولى فاتّضح لي أنّ البرنامج في حاجة لأكثر عناية ولا يمكن استيعاب ما جاء فيه من قراءة واحدة فعمدتُ إلى قراءته قراءة ثانية مع تطبيق القاعدة الذهبيّة التي رسّخها فينا أستاذنا الجليل» المنجي الشملي» رحمه الله وهي أن نعالج النصوص بتسطير الأفكار الرئيسيّة أو الهامة بالأحمر وما إن أتممتُ هذه القراءة حتّى تحوّلتْ صفحة الجريدة المكتوبة بالأسود إلى صفحة حمراء فلم أجد في برنامج النهضة فكرة واحدة لا تستحقّ أن تسطّر بالأحمر.فالمحاور الرئيسيّة الخمسة التي أوّلها مقاومة الفساد وما يتبعه وثانيها مقاومة الفقر والعناية بالفئات الهشّة ومتوسّطة الدخل وثالثها تطوير التعليم ورابعها النهوض بنسق الاستثمار والنموّ والتشغيل وخامسها كلّ ما له علاقة بالمسار التأسيسي وخاصة تركيز الحكم المحلّي مع تفصيل لهذه المقترحات التي لا أبالغ إذا قلتُ أنّها قد لامستْ موطن الداء في ما يعاني المواطن اليوم بدون أن تترك- أي موطن ضعف يعاني منه تعليمنا أو صحّتنا أو اقتصادنا أو ماليّة بلادنا أو أمنها- للصدفة بل أحكمتْ حصْر وتبويب كلّ ما ستقوم به لو قبلتْ الأحزاب الدخول معها في الحكومة التي ستكوّنها .لكن في كلّ ما سطرته بالأحمر والذي أعدتُ قراءته مرات ومرّات لم أجد ولو إشارة بسيطة إلى من أين ستأتي النهضة بالاعتمادات الضروريّة لهذه الإصلاحات فهل هي وجدتْ كنزا أم ستعتمد على ما خصّصته ميزانيّة الدولة للاستثمارات وهي لا تزيد عن 7 آلاف مليار؟ أم هي ستقتطع من ميزانيّة الدولة المبرمجة لسداد فائض الدين أو الدعم أم من ما هو مخصّص للأجور؟ فأنا مبدئيّا لا أرى بابا آخر لتمويل برنامج النهضة. إنّ ما يتطلّبه الإصلاحات المذكورة في برنامج النهضة- خاصة وأنّ النهضة التي حكمت منذ 2012 هي أعلم بالوضع المالي أي «بالبير وغطاه» ووزير التنميّة من قياداتها ووزيرة التشغيل من صلبها ووزير الاصلاحات الكبرى لا يبتعد عنها وما خفي كان أعظم فهل تساءلتْ مِنْ أين ستأتي بالمال الذي لا مفرّ منه لتحقيق هذه الإصلاحات وجَيْب الدولة مخروم من الإفلاس على لغة الشاعر الهزلي حسين الجزيري ؟ ولا أدري لماذا بينما كنت أعيد قراءة برنامج النهضة كنت أردّد بيت نزار قباني»من أينَ تأتيِ بالفصاحة كلّها ..وأنا يَتُوه عن فمي التعبير»أي الأمر كلام بكلام و»الَملْقَى» بعد تشكيل الحكومة لقد وقفتُ عاجزا ومحتارا أمام النصّ الدسم لبرنامج النهضة.والذي لم يجب عن أبسط سؤال قد يتبادر لذهن المواطن من أين ستموّل هذا البرنامج؟. لكن الحمد لله فإنّ حيرتي هذه لم تدم طويلا ففي مساء نفس اليوم الذي صدر فيه برنامج النهضة في الشروق جاء ما بدّد حيرتي في مداخلة» شكيب درويش» في برنامج تونس اليوم الذي تديره مريم بالقاضي والذي يعتبر «شكيب» المدلّ عندها لذلك لا أستغرب أن يكون «شكيب» وراء اختيار «الغنوشي» من ضمن العشر شخصيات المختارة للتعليق عليها وبطبيعة الحال فقد انقضّ» شكيب» على «الغنوشي» ليقول فيه كلاما هاما في هذا الظرف بالذات والغنوشي مرشّح النهضة لترؤّس الحكومة وليسمح لي القارئ الكريم أن أطيل في هذا الموضوع وذلك باستطراد سيكون جزءا منه له علاقة متينة بحيرتنا وسيجيب على» مُخِّ الموضوع» أمّا بقيّة ما سأنقله أرى من الضروري أن يعرفه كلّ تونسي في هذا الظرف الذي لا تقلّ فيه حيرته على مصير البلاد . فماذا قال» شكيب» في تعليقه على صورة» الغنوشي»؟ أبدأ بالتنبيه إلى أنّ «شكيب» عندما يتحدّث مدافعا عن النهضة لا ينطق عن هوى بل هو وحي يوحى له من قمّة السلطة في النهضة لذلك ما لم نجده صراحة في برنامج النهضة فقد جاء على لسان» شكيب» في المُداخَلة التي قام بها «شكيب» فقد أمْتَعَنَا بثلاث»دجنقيلات»(الدجنقيلة في الكرة هي التفنّن في مداعبة الكرة بدون أن تسقط على الأرض) أمّا «الدجنقيلة» الأولى تتعلّق بساعات العمل القادر على أدائها الغنوشي فقد- أراد بذكرها أن يخفّف من المبالغة المضحكة والخياليّة التي وقع فيها «الهاروني» وذلك بإسقاط إدّعاء الهاروني أنّ الغنوشي يعمل 21 ساعة في اليوم وقد أراد بهذه» الدجنقيلةّ في نفس الوقت إثبات مقولة أخرى وهي أنّ» الغنوشي» يعمل 16 ساعة في اليوم وأقول له –عن دراية إذ أنا في نفس سن» الغنوشي»- أنّ هذا غير ممكن إطلاقا لمن هو في سنّ «الغنوشي» فعندما نُمْعِن النظر في حركات الغنوشي وفي ملامح وجهه خاصة عندما يرفع نظّاراته نشعر بأنّ الرجل قادر على بعض الأعمال البسيطة كالتفاوض والاستقبالات لكن عمل رئيس الحكومة في ظرف تونس الحالي ليس أي عمل بل هو عمل شاقّ بأتمّ معنى الكلمة ولا يقدر عليه إلّا قويّ البنية الحاضر ذهنيّا والمتسلّح بعلوم الاقتصاد والتسيير و"الغنوشي" غير قادر على تحمّل هذه المسؤوليّة خاصة وأنّه غير مؤهّل لهذه الخطّة التي تتطلّب تكوينا معيّنا لذلك أجزم من الآن أنّ ترشيحه مناورة سنعرف أسرارها عن قريب. ثمّ انتقل ليقيّم وزن» الغنوشي» فقال :"هذا الرجل على أهميّة وعلى وزن وعلى ثِقل اليوم ويبدو أنّ حركة النهضة» بطُمِّها و طميمها» انشغلتْ بوضعه معناه أي مقعد سيظفُر به رئيس حركة النهضة؟ أنا أقول أنّ نائبا في البرلمان فحسب هذا بالنسبة لكثير من النهضوييّن أقلّ بكثير من ثقل الرجل وقيمته وقدرته ونفوذه وشبكة اتّصالاته وعلاقاته يلزم" نَخَمُولُو"في حاجة يلزم نَخَصُّوهْ بمقعد ما يلزم نَزْلُوه منزلة ما إمّا أن يكون رئيسا للبرلمان أو أن يكون رئيس حكومة؟.