تونس «الشروق»: يؤكد الدكتور نادر الحمامي على ضرورة الاهتمام بالتربية الدينية لتنشئة الأطفال والشبان على قبول الاختلاف وفهم القواسم المشتركة بين الأديان لتحصينهم ضد التطرف. الدكتور نادر الحمامي من الجيل الجديد الباحثين التونسيين المهتمين بقراءة النص الديني وتأويله وفق مقاربات العلوم الإنسانية. له إسهامات علمية واهتمام بالشأن العام ومواجهة التشدد الديني. في هذا الحوار يتحدث عن المشروع الحداثي وقضايا التربية الدينية. كيف ترى المشهد الفكري في العالم العربي اليوم في مستوى المراجعات المطلوبة في تفسير القرآن وتأويله والأحاديث النبوية؟ أوّلا أنا أحترز كثيرا من قضيّة المراجعات الفكريّة التي يتمّ الحديث عنها وربطها ببعض التيّارات الدينيّة أو حتّى السياسيّة ذات المرجعيّة الدينيّة، ذلك أنّ المسألة ارتبطت في الغالب بأفراد كانوا ينتمون إلى تلك التيّارات، وعادة ما يغادر الفرد التيّار الذي كان ينتمي إليه أو حتى ينقلب عليه تماما ويصبح من أشدّ معارضيه. أمّا بالنسبة إلى مراجعات فكريّة متعلّقة بتيّار كامل أعلن في أدبيّاته عن تخلّيه عن مواقف سابقة أو نسبها أو اعترف بأخطائه فهذا في الحقيقة ما لا نقف عليه. ما يبدو مراجعات هو نتيجة إكراهات أو توازنات أو ضرب من التكتيك أو تقسيم أدوار أو حتّى مقايضة أحيانا. ولذلك علينا النظر إلى الأسباب الحقيقية التي جعلت المؤسّسات الدينية أو الجهات السياسية ذات المرجعية الدينية التي تتراجع عن مواقفها المستندة إلى الموروث الديني، وأنا لا أعتقد أنّها ناتجة عن تطوّر ذاتي بل لأنّها مفروضة عليها بشكل أو بآخر. هجمة كبيرة على المستنيرين الذين يبدون مواقف ضد الإسلاميين تصل إلى حد التكفير والاغتيال متى ستتوقف ثقافة الاغتيال؟ الهجمة كبيرة ليس فقط على المستنيرين، كما وصفتم، الذين يعارضون الإسلاميّين، وإنّما على كلّ نفس تحرّريّ في أيّ مجال، يكفي أن تطالب بحريّة فرديّة ما حتّى تنطلق الهجمات إمّا بالتشويه أو التكفير الذي عاينّا نتائجه الدامية والشنيعة في أكثر من مناسبة. مثل هذا الأمر لن يتوقّف طالما كان الممسكون بزمام السلطة السياسيّة أوّلا وقبل كلّ شيء لا يفعلون شيئا لإيقاف مثل هذه الهجمات التي تنطلق خطابيّا لتصل إلى الاغتيالات والجرائم، أو إنّهم يتساهلون معها، حتّى لا نقول يسايرونها بطريقة أو بأخرى. وستسمرّ مثل هذه الهجمات طالما لا يتمّ تطبيق القانون بصرامة، وطالما لم ننزّل الحريّات المرتبطة بالتعبير والضمير والاعتقاد إلى أرض الواقع دون استثناء أيّ حريّة من الحريّات بأيّ حجّة كانت. ستسمرّ هذه الهجمات أيضا طالما لم نشرع بعد في الدربة على الاختلاف الحقيقي المنطلق من التربية والتعليم اللذين ينبغي أن يكونا مؤسّسين على العقلانيّة والحسّ النقدي والانخراط في الإنسانيّة. أصدرتم كتبا عديدة في مجال تخصصكم كباحث وكجمعية معنية بالتنوير إلا ترى أن مراجعة مناهج التربية الدينية أولوية في العالم العربي؟ ذكرتم في سؤالكم عبارة "التربية الدينيّة" الحقيقة أنّه لا وجود لذلك مطلقا في كلّ الدول الإسلاميّة، ما يوجد هو "التربية الإسلاميّة" أو "التفكير الإسلامي" في المراحل الثانويّة في تونس. وأعتقد أنّ الخطوة الأولى والأساسيّة في ما طرحتم من قضيّة مراجعة المناهج هي تحويل التربية الإسلاميّة إلى تعليم، لا تربية، يساهم في معرفة الأديان، بمعنى عدم الاقتصار على دين بعينه بحجّة أنّه دين الأغلبيّة، لأنّه أوّلا يجب أن يتوجّه التعليم إلى التلاميذ، ومهما كانت المادّة، بصفتهم مواطنين بقطع النظر عن انتماءاتهم الدينيّة حتّى لا يحصل أيّ نوع من أنواع التمييز، فلا أحد يعلم علم اليقين إن لم يكن من بين التلاميذ من يعتقد في عائلته أو محيطه اعتقادا يخالف الإسلام مثلا. من جهة أخرى فإنّ تحويل التربية الإسلاميّة إلى التعرّف على الأديان علميّا يساهم بشكل كبير جدّا، في تقديري، في زرع ثقافة قبول المختلف دينيّا لدى الناشئة، فعوض مثلا أن نعلّم أطفالنا أنّ مكارم الأخلاق مرتبطة حصريّا بالإسلام، نعلّمهم أنّ ذلك من المبادئ المشتركة بين الأديان والفلسفات والثقافات، وتعدّد الأمثلة على ذلك من أديان وفلسفات وثقافات مختلفة قد يكون سبيلا لقطع الطريق مستقبلا أمام الرفض والصراع على أسس دينيّة. هناك ملاحظة أخرى أيضا وهي أنّ التربية الإسلاميّة كما تدرّس الآن تقترب بشكل كبير من الخطابات الدعويّة والوعظيّة، وتعتمد التلقين وتكرّس خطّا واحدا ليس دينيّا فحسب وإنّما أيضا خطّا مذهبيّا واحدا داخل الإسلام، فيكبر التلميذ وهو لا يعرف من الإسلام إلاّ اتّجاها واحدا ليصطدم لاحقا بتصوّرات أخرى مختلفة عمّا لقّنوه إيّاه على أنّه الحقيقة الوحيدة المطلقة ولا نضمن حينها ردود الأفعال. تشكل المناهج المعتمدة في جامعة الزيتونة عائقا أبستمولوجيا كبيرا في تحرير القراءات من النظرة الوهابية هل ترى ضرورة لوجود جامعة زيتونية اليوم بعد تطور مناهج التحليل وقراءة النص الديني؟ لا أدري فعلا إن كان يمكن ربط جامعة الزيتونة بالوهابيّة كذا في المطلق، ولذلك يمكن القول النظرة المحافظة والجامدة وهذا تقريبا واضح تماما للمطّلعين على مناهج هذه الجامعة وبرامجها. بالنسبة إلى تطويرها فأنا لا أعتقد أنّ جامعة لها توجّه ديني يمكن أن نطالبها بأن تتحوّل إلى جامعة علوم إنسانيّة واجتماعيّة، تلك هي طبيعة الجامعات التي من هذا النوع سواء في تونس أو في غيرها من دول العالم التي نجد فيها كلّيات اللاهوت والتيولوجيا والإلهيّات وهي كلّها محافظة تقتصر على ضروب من الوصف وتتّسم بميل إلى التلقين في العموم الغالب. الإشكال الأكبر يكمن في تحوّل الجامعة إلى منبر سياسيّ يقترب من أحزاب بعينها ويشكّل معها أداة ضغط اجتماعيّة لمعارضة السير نحو إقرار الحقوق والحريّات الفرديّة والجماعيّة، ونحن في تونس شهدنا منذ ما يقارب العقد الآن تحوّل جامعة الزيتونة ممثّلة في بعض أساتذتها والمنتسبين إليها إلى سند جامعيّ لقوى سياسيّة محافظة، هذا في رأيي هو أخطر شيء. هناك انهيار واضح لمشروع التحديث في العالم العربي وعودة لمربّع "الهوية" وشيطنة العلمانية ودولة الاستقلال كيف ترى المستقبل أمام انتشار ثقافة التطرف؟ اسمحوا لي بعدم مشاطرة رأيكم في ما يتعلّق بما وسمتموه الانهيار الواضح لمشروع التحديث في العالم العربي. لا أتصوّر مطلقا وجود مثل هذا الانهيار وما يعتبر عودة لمربّع الهويّة وشيطنة التقدّميين ودولة الاستقلال في تونس إلى آخره، هو في تقديري ضرب من ضروب محاولة المعارضة اليائسة لتقدّم حركة التاريخ لا أكثر ولا أقلّ. قد يبدو كلامي نوعا من التفاؤل المفرط أو حتّى غير الواقعي، ولكنّي فعلا أرى ما وسمتموه بثقافة التطرّف في انحسار مستمرّ وليست في انتشار. ظاهريا هي في انتشار فهي تحدث ضجيجا كثيرا لأنّها تتخبّط. هذا لا يعني أيضا أنّ لدينا مشروعا أو مشاريع تحديث متعالية على النقد والمراجعة، فبعض ما نعيشه اليوم هو نتيجة قصور التحديث في المجتمعات العربيّة، إذ أنّه تحديث بقي في معظمه ترميقيّا ومنقوصا، وأقول تنقصه الجرأة الكافية على الصدع بالأسباب الأساسيّة للتخلّف الحضاري إمّا مسايرة للمجتمع أو السياسة، وإن تسلّح بالجرأة فإنّه عموما في نطاق نخويّ وضيّق جدّا لا يتعدّى أسوار الجامعات والمؤتمرات، ولم يلامس المجتمع بخطاب مباشر وواضح ومفهوم، ولم يطوّر أساليب خطابه وطرقه، ولم يستغلّ كما ينبغي تقنيّات التواصل الحديثة التي استغلّتها الجهات الأكثر محافظة ورجعيّة وتشدّدا. إنّ المطروح بقوّة اليوم أمام النخب التحديثيّة هو تغيير طرق تواصلها لأنّ المعركة الحقيقيّة هي معركة جمهور، وهو جمهور أغلبه من الشباب الذي أصبح يعيش في عالم آخر لم تتمكّن النخبة من ولوجه عبر آليّات خطاب يفهمها ذلك الشباب ويستسيغها؛ شباب يستحيل بحكم تكوينه ونسق حياته أن يتابع التحليلات المعمّقة والطويلة والمعقّدة والقائمة على التنظير والتقعيد، وأصبح يميل إلى الخطابات الواضحة والسريعة التي تذهب إلى الهدف مباشرة. مَنْ مِنَ النخبة حاول اليوم تبسيط مفاهيم العلمانيّة والحريّات والحقوق والديمقراطيّة إلى غير ذلك بالأسلوب الذي يقبل عليه الشباب؟ لا أرى محاولات كثيرة جادّة في هذا المجال، وهذا ما يجب استدراكه. الدكتور نادر الحمامي في سطور نادر الحمّامي، أستاذ الحضارة بالجامعة التونسيّة، باحث سابق بمعهد الدراسات المتقدّمة ببرلين ومدرّس بجامعتها ضمن معهد الدراسات العربيّة والساميّة. رئيس جمعيّة الدراسات الفكريّة والاجتماعيّة، وعضو مؤسس في معهد البحوث حول الأديان، وعضو وحدة بحث "في قراءة الخطاب الديني"، وعضو الهيئة العلميّة لمعهد الدراسات حول المغرب العربي المعاصر، وعضو اللجنة المشرفة على إصدار "تقرير الحالة الدينيّة في تونس 2011 -2015" مشرف على سلسلة كتب "الإسلام السياسي: المفاهيم والتصوّرات". مهتمّ بالبحث في قضايا المتخيّل الديني والمتخيّل التاريخي والدراسات القرآنيّة. من إصداراته " صورة الصحابي في كتب الحديث" و"إسلام الفقهاء" "