يعيش المجتمع التونسي خلال السنوات الأخيرة حالة انهيار قيمي وأخلاقي غير مسبوقة أفرزت تحطّم صورة رموز الدولة بصفة عامة انطلاقا من علاقة التلميذ والطالب بالأستاذ وصولا الى التحرش بالشخصيات التاريخية ورجال الدولة على غرار التحرش ببورقيبة. بل طالت المقدسات الاسلامية. تونس (الشروق): شهد مجتمعنا في السنوات الأخيرة انتشار الكثير من الظّواهر السلبيّة متفاوتة الخطورة. منها ما تم نشره من قبل طالب الطب وتطور الازمة بينه وبين ادارة الكلية وتبادل التهم بين الطرفين. وهي ليست حادثة فريدة. إذ تعرف العلاقة بين التلميذ من جهة والمربي من جهة أخرى عديد حالات التوتر تعكس غياب احترام رموز الدولة على غرار المربي الذي كان في «مقام» الرسول للمكانة التي كان يشغلها في المجتمع سواء بفضل الرسالة العلمية التي يؤديها في المؤسسة التربوية او لدوره الاجتماعي في تقريب وجهات النظر بين مختلف المحيطين به في حيه ومنطقته. إذ كان مثالا للحكمة والكلمة الطيبة. لكن هذه الصورة تغيرت بسبب تغير القيم. ولم يعد رجل العلم والمعرفة هو القدوة التي يسعى الولي والتلميذ الى ادراكها. بل اصبح نجوم «الراب» ولاعبو كرة القدم وغيرهم ممن يرى المجتمع في أنهم حققوا نجومية وأموالا طائلة هم القدوة والنموذج الذي يجب اتباعه. ضياع البوصلة اختلت الموازين وضاعت البوصلة. فلم يعد لتلاميذنا نفس القيم القديمة والقدرة على التمييز بين الصالح وغير الصالح وتحول الاستثناء الى مسألة عادية. وأصبحت المنظومة التربوية في حاجة الى استعادة دورها في ترسيخ القيم الجيدة وأخذها بعين الاعتبار في البرامج التعليمية حتى نصلح السلوك الغريب الذي اكتسح المؤسسات التربوية من انتشار العنف والكلام البذيء سواء بين التلاميذ والاطار التربوي او بين الاولياء والمربين لذلك تتواتر حوادث يومية غريبة عن مؤسساتنا منها ما حدث مؤخرا في بن عروس من اعتداء (امرأة) وليّ بالعنف على القيّمة العامة بالمدرسة الاعدادية 2 مارس برادس. وتم على إثره نقل القيّمة العامة إلى المستشفى العسكري بتونس العاصمة نظرا الى خطورة حالتها. كما تكرّرت حالات الاعتداء بالعنف على الإطار التربوي بعدة مناطق آخرها الاعتداء الذي تعرض له أحد المعلمين بمدرسة إبن خلدون ومدرّس بالبئر الجديد ببوحجلة. وهو ما دفع نقابات التعليم الى مطالبة وزارة الإشراف بالإسراع في سن قانون يجرم الاعتداء على المربين. ويحاسب على أي اعتداء على حرمة المؤسسة التربوية. وكشفت دراسة للمعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية حول العنف الحضري بتونس صادرة في أكتوبر 2017 عن تنامي ظاهرة العنف اللفظي والجسدي داخل المؤسسات التربوية مقارنة بالفترة السابقة للثورة. حيث وصلت الى حدود غير مقبولة. وقد بلغ عدد حالات العنف المسجلة بالمرحلة الإعدادية والتعليم الثانوي خلال 3 سنوات من 2012 إلى حدود 2015، 44.187 حالة في الإعدادي و23.225 في الثانوي. ولا يعد العنف حكرا على الفضاء المدرسي. بل انه منتشر في مجتمعنا.وقد صرحت وزيرة المرأة نزيهة العبيدي خلال ندوة انتظمت يوم السبت 16 نوفمبر 2019، بمدينة بنزرت تحت عنوان « حماية المرأة من العنف في المنظومة القيميّة والقانونية ارتفاع نسب العنف المسلط على مختلف شرائح المجتمع مشيرة الى أن 40 ألف قضية مرفوعة بالمحاكم موضوعها العنف الأسري. ولا شك ان هذه الارقام تعكس أسباب ضياع بوصلة التلميذ الذي لا شك انه يحاكي ما يشهده في الاسرة والشارع التونسي والقنوات التلفزية ووسائل الاتصال من عنف ويعيد إنتاجه في المؤسسة التربوية. بورقيبة والمقدسات الواقع أنّ هذه الظّواهر ليست حكرا على مجتمعنا. بل هي منتشرة في كلّ المجتمعات. ولكن الإشكال يكمن في ارتفاع معدّلاتها في مجتمعنا بمختلف فئاته ومستوياته، وبلوغها درجات عالية من العنف غير المسبوق حتى بدا للبعض أنّنا في فترة غير مسبوقة من انهيار القيم من ذلك إقدام 4 تلميذات يوم الخميس الماضي لا تتجاوز أعمارهن 16 عاما على نشر مقطع فيديو يحمل إساءة إلى المقدسات الإسلامية ومن بينها الرسول صلى الله عليه وسلم. ويأتي ذلك بعد تطاول بعض الوجوه السياسية لعل آخرهم النائب سيف الدين مخلوف على بورقيبة بالقول «من يقتل التونسيين لا يمكن أن يكون رمزا ومن يسرق مال الشعب ويقوم بتخصيصه للاحتفال بعيد ميلاده لا يمكن أن يكون رمزا». ويرى المختصّون أن تأثير القنوات التلفزية والمواقع الالكترونيّة وشبكات التّواصل الاجتماعيّ التي أضحت مصدرا أساسيًّا للمعرفة والأخبار والتسلية كان لها دور كبير في تغيير قيم المجتمع في الوقت الذي لم يتسلّح فيه المجتمع بما يكفي من التحسيس والوعي. كما تساهم أغلب القنوات التّلفزيونيّة ببث المضامين التي تروِّجها وبرامج البوز» التي لا تهدف الى التثقيف والتحسيس. بل تعمل على نشر الرداءة وتعميمها في المجتمع حتى اصبحت توصف بما يسمّى «تلفزيون نفايات» بسبب برامج الفضائح الاجتماعيّة التي تحتلّ صدارة المشاهدة مقابل غياب برامج التّثقيف والتّوعية والتّربية. ويرى الملاحظون أن الطبقة السياسية بدورها ساهمت في نشر العنف لذلك وجب الحدّ من هيمنة السّياسة على كلّ مجالات الحياة ودعم منظومة القيم والاخلاق التي توجّه السلوك الفرديّ والجماعي. عبد اللطيف الحناشي أستاذ جامعي في التاريخ المعاصر ل«الشروق» هذه أسباب تراجع احترام الرموز أعتقد أن العامل الأساسي في تراجع احترام رموز الدولة بداية من رجال التربية والعلم الى رموز الفكر والتاريخ يعود اساسا الى ازمة القيم التي يعيشها مجتمعنا. والازمة تشمل القيم بمعناها الشامل الاخلاقية والاعتبارية وقيمة المعرفة وقيمة العمل والتضامن كلها تهاوت وتراجعت نتيجة عدة عوامل منها الاجتماعي والأخلاقي والاقتصادي. فقيمة المعرفة مثلا لم تعد اليوم كما كانت عليه في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. إذ تراجعت قيمتها. ونرى ذلك من خلال سلوك الآباء في السابق لما كانوا يحثون أبناءهم على التعلم بدل لعب كرة القدم مثلا. أما اليوم فقد تغيرت المقاييس والقيم لان لاعب الكرة يمكنه في سنة او اثنتين ان يتحول الى رمز لانه يكسب الملايين ويجمع ثروة طائلة. وهذه التحولات ليست حكرا على تونس. بل نعيشها في الداخل والخارج مما انعكس على السلوك العام للمواطن من الولي الى المربي الى الابن. فعندما يرى التلميذ والده من خلال الحديث يقلل من شأن المربي أمامه. ويصطف إلى جانبه كل ذلك يساهم في تغيير القيم. وينعكس على مجتمعنا العنيف بطبعه. اذ نرى من خلال ما نطالعه يوميا من جرائم في الصحف وما نشاهده من عنف لفظي ومادي في الشارع وما نراه من عنف بين المربي والتلميذ في المؤسسات التربوية ومن عنف بين الولي والاطار التربوي يؤكد أن القيم التي كانت سائدة في السابق قد تراجعت لتأخذ مكانها قيم جديدة. كما ان للازمة ابعادا اقتصادية. فرب الاسرة الذي نراه عاجزا عن تلبية الحاجيات الأساسية للأسرة يكون طيلة الوقت تحت ضغط القلق والغضب والتوتر مما يجعله عنيفا في سلوكه. وهو ما يؤثر على كل أفراد الأسرة بما في ذلك الأبناء. فالأزمة مترابطة وعامة. وللاسف يمكن القول انها بعد ثورة 2011 توسعت وتفاقمت. إذ كانت موجودة منذ 1987 لكن نسق العنف ارتفع بسبب الضغوط والظلم والقمع السياسي الذي رجع بشكل عكسي في السلوك اليومي للعامل والموظف والعاطل والتلميذ. فالظلم الذي عاشته هذه الفئة يرجع بشكل سلبي في تفاصيل الحياة اليومية ضد رموز الدولة والسياسة. ولا بد من الاشارة الى ان بعض رجال السياسة قد ساهموا بسلوكهم السياسي في الدفع نحو هذا الاتجاه من خلال ما يعرف بالانتخاب العقابي الذي يعني في الواقع نوعا من الاحتجاج من خلال تقلص الخزان الانتخابي لكل الأحزاب بما في ذلك الأحزاب التي حظيت بالمراتب الأولى بسبب خطابهم وعدم الايفاء بوعودهم والإفلات من العقاب. وبالتالي فإن الصراع الأيديولوجي وضعف الدولة كان لهما دور كبير في جعل بعض الاشخاص يتجاوزون حدودهم. ويمارسون الرفض والسلوك العنيف تجاه بعضهم وتجاه الدولة. لكن هل يوجد حل لتجاوز هذا السلوك الرافض لرموز الدولة؟ عن هذا السؤال اجاب الاستاذ حناشي بأن الحل شامل. وليس هينا ذلك أنه مرتبط بعوامل داخلية واخرى خارجية اشمل تتعلق بتحولات يشهدها العالم أهمها الثورة التكنولوجية الثالثة ودور شبكات التواصل الاجتماعي منها الفايس بوك والانستغرام والفضائيات في نحت شخصية جديدة للمواطن في تونس والعالم. لكن في تونس للاسف وعكس ما يروج فإن مجتمعنا عنيف وهو ايضا محافظ. وقد تعرض لصدمة كبيرة اخلاقية واجتماعية على اثر ما يروج في وسائل الاتصال وفي الفضائيات من مسلسلات وبرامج واقع واغان تروج للعنف واستهلاك المخدر وغيرها من أنواع الجريمة في المشهد العام الذي يروج يوميا من مشاهد واشخاص بهيئات والفاظ تعمل على تعويد المجتمع على البذاءة وتغيير القيم والأخلاق. فما كان بالأمس مرفوضا أصبح اليوم عاديا. كما أصبح الاستثناء مشاعا ذلك ان القنوات التلفزية ببرامج الواقع التي تبثها حادت عن دورها الذي يفترض أن يسمو بأخلاق الناس وسلوكهم عبر الثقافة والفن والتوعية والتحسيس وزرع القيم. فأصبحت تنشر البذاءة وقيم الاستهلاك وأعلى درجات البذاءة. ولا بد أن نشير الى أنه منذ السبعينيات بدأ مجتمعنا يتجه نحو السلوك الاستهلاكي عبر الانفتاح الاقتصادي الذي يكرس نمطا مجتمعيا تطغى عليه "اللهفة" في المناسبات الموسمية مثل الاعياد وعقلية «دبر راسك» لتوفير الكماليات من زقوقو وعلوش العيد. وهو ما جعل الفساد في مجتمعنا أفقيا يبدأ بسرقة الأقلام والورق من مقر العمل. وينتشر في المحيط العام تحت عامل المحاكاة وتقليد الآخرين والإفلات من العقاب و»تدبير الراس» …