كل الأزمات التي تعيشها بلادنا وغيرنا من اشقاء"الربيع العربي" أزمةُ حُكمٍ.هي إذن أزمةٌ سياسيةٌ.. أما بقية الأزمات من اقتصادية وأمنية واجتماعية واخلاقية فإنما متفرّعة عن هذه الأزمة الأم!..لقد كنا سابقا نعتقد أن الدكتاتورية سبب التخلف والفساد. لكن الوضع لم يتغير، بل إستفحلت الشرور أكثر وخرجتْ خروجَ العفريت من قمقه.فالدكتاتور كان"رحمةً" لأنه اختزل الشرور في ذاته "كفدائي"، وهوعلى الأقل كان له فضل توحيدنا ضده ،أما اليوم فاستشرت العداوة الى حد التقاتل كما يحدث بليبيا او بالعراق اوبسوريا او حتى لبنان ناهيك عن الجزائر خلال العشرية الدامية..وكل هذه الخطوب إنما هي تصديقٌ لمقولة - سلطانٌ غشومٌ خيرٌ من فتنةٍ تدومُ-!.. وفي هذا الوضع الفاسد صرنا نستخف بالديمقراطية والديمقراطجية (ومن ذلك حتى مقولة رائد الديمقراطية العربية عبد الرحمان الكواكبي التي كتبها منذ ازيد من قرن : لو كان الإستبداد رجلًا وأراد أن ينتسب لقال :أنا الشر وأبي الظلم وأمي الإساءة وأخي الغدر وأختي المسكنة وإبنتي البطالة وعشيرتي الجهالة ووطني الخراب وديني المال!..) فأمثال هذه المقولات "غرّرتْ" بأقطارنا وبوطننا العربي الذي سالت به انهارٌ من الدماء وضاعت مقدّراتُ شعوبه هباء.والكلمة التي تستحق احترامنا هي مقولة معاصره الإمام محمد عبده رحمه الله : الشرق لا ينهض به إلا المستبد العادل!!.. منذ الثورة عرفت بلادنا حوالي 10 حكومات فاشلة،والآن زاد الفشل أكثر حيث عجزوا حتى عن تشكيل حكومة، وبالكاد تمكّنوا من تشكيل البرلمان.. وحتى إن تشكلت فستكون اضعف حكومة.هي بكل تأكيد اعجز من ان تنهض بعبء فشل فيه إئتلاف 2014 المدعوم بوثيقة قرطاج المسنودة بعدة أحزاب أخرى ومنظمات وطنية عتيدة كان نتيجته حصول بلادنا على جائزة نوبل للسلام ! اليوم الحل الحاسم يستوجب تغيير المنهج بعيدا عن "طاحونة الشيء المعتاد".فالقوالب الجاهزة المستوردة هي التي جعلت البلاد والعباد فئرانَ تجاربٍ في خدمة "الديمقراطية" بدلا من ان تكون هي في خدمة الوطن والشعب.هذا مع التذكير بأن منهج الصراعات الحزبية بمزاعم "التنافس" هو منهج مستنسخ من المجتمعات الغربية الذي هو الوجه السياسي للوجه الإقتصادي المبني على الداروينية الإجتماعية- حوت يأكل حوت و البقاء للأقوى- ...ففي الحقيقة الشعوب لا تثور من أجل "ديمقراطية" وإنما من أجل العدل وتوفير التنمية!وهذا كله أتلفته هذه الديمقراطية الليبرالية النخبوية في غياب الديمقراطية الشعبية الحقة!... المقترح :[ بدايةً يجدر التذكير بأن هذا المقترح تم عرضه حتى قبل انتخابات اكتوبر2011: راجع مقالي بالشروق ليوم 19 سبتمبر2011بعنوان: لأجل الوفاق الوطني. او لاحقًا مقالي بالصباح : تورس، لا يمكن حمل الزرافة من أذنيها. أو بالصريح : ما أشبه الليلة بالبارحة... نقول: بما أن المحاصصة هي بيت الداء وسبب الخراب فالحل يكون بالوفاق المطلق الذي لا يكون إلا بتقاسم البرلمان بالتساوي بين التيارات السياسية الستة!!!.. في تونس توجد احزابٌ عديدةٌ جدا لكن يمكن تقسيمها الى6 تيارات، ثلاثة منها من اليسار وثلاثة من اليمين وهي نزولا من اليسار الى اليمين : الأحزاب ذات الخلفية الشيوعية، الأحزاب القومية،الأحزاب ذات التوجه الديمقراطي ثم من جهة اليمين :الأحزاب الدستورية البورقيبية،الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية، وأخيرا الأحزاب الليبرالة. والفكرة تقوم على تقاسم البرلمان بين هذه التيارات الستة بالتساوي التام دون اللجوء الى الإنتخابات!.. أما كيفية اختيار الأشخاص كنواب بالبرلمان فتوجد عدة تصورات ومنها مثلا أن نختار من كل ولاية 6افراد كل فرد منهم يمثل تيارًا من التيارات الستة.وبما ان لنا 24 ولاية فهذا يعني أن البرلمان سيضم 144 نائبا(6×24=144)أما اختيار النائب فيكون خلال مؤتمر مخصوص تحت اشراف هيئة الإنتخابات حيث يعقد المناضلون المنتمون لنفس التيار مؤتمرَهم الخاص بهم من اجل تقديم تزكياتهم لرفاقهم الذين يريدون الترشح الى البرلمان.وهكذا وعن طريق التزكية المباشرة العلنية ( مثلا برفع اليد عند الموافقة)يكون الشخص الذي حصل على اكبر عدد من التزكيات هو النائب المختار. إضافة: لكي يكون البرلمانُ أكثر كفاءة ونجاعة يستحسن أن نضيف إليه عددا من الخبراء المستقلين الذين ربما يكون عددهم بعدد الوزارات بمختلف اختصاصاتها(خبير أو خبيرين في اختصاص كل وزارة..وطبعا هؤلاء الخبراء يتم اختيارهم لاحقا من طرف النواب)وبما أن لنا 25 وزارة فهذا يعني في مجموع الخبراء بالبرلمان هو 50.وفي المحصلة يكون عدد نواب البرلمان194 (144+50=194). ملاحظات :1- تحسّبا للتيارات الفاقدة للشعبية ببعض الولايات ،أو للتيارات التي ربما تضعف أو حتى تنقرض فيجب وضع "عتبة"، أي وجوب توفر حد أدنى من المناضلين بكل مؤتمر ( 1000منخرط كحد أدنى مثلا).2-بحسب هذا التصور فإن مشاركة المواطنين بالخارج تستوجب حضورهم الشخصي لمؤتمر التيار الذين ينتمون إليه.وعلى كل حال الإنتخابات الرئاسية تبقى على حالها.3- هذا التصور لا يوجد به أي مجال ل"القائمات المستقلة".. ختاما : بكل تأكيد الشعب البريء يبارك هذه الفكرة بإعتبارها مزيلة لصداع المناكفات والمزايدات وتستبدله بالهدوء والتكاتف.لكن النخبة ربما تقول "ماسمعنا بهذا من قبل ولن نتّبع إلا ما وجدنا عليه غيرنا".. وطبعا هذا ناتج عن تمسّك دغمائي بنماذج اثبتت قصورها.هو إذن موقف أيديولوجي محنّط (لكن غير معلن وغير منتبه إليه!) رغم توصياتهم بضرورة البراغماتية و"نهاية الأيديولوجيا". ولكن أليست البراغماتية الحقة تفرض التخلص من القوالب الجاهزة والتفكير الحر بحثا عن حل يتناسب مع الوضع؟؟. من ناحية ثانية هذه الفكرة التي تبدو" مخالفة للدستور" تتقارب مع وصايا الرئيس قيس سعيد بالإقتراع على الأفراد بدلا من القائمات.وهي تنسجم بالتمام مع مقترحه بضرورة الديمقراطية التشاركية والمجالس المحلية... ولنقارن هذا البرلمان ببرلماناتنا السابقة التي كانت سببا في ضياع البلاد(دائما يؤكدون على أنه لا بديل عن النظام الرئاسي.وربما هذا صحيح،لكن هنا وبالمناسبة نقول:الحلقة المفقودة في النظام الرئاسي هي أننا الى حد الآن "بإستثناء قيس سعيد ربّما؟"لم نعثر على زعيم له من الكاريزما ما يسمح بتسليمه البلاد "خاتم في الإصبع"..).على كل حال البرلمان بهذا الشكل المتوازن الخالي من التغوّل والتطاوس يغني حتى عن النظام الرئاسي.فهو برلمان توافقي بأتم معنى الكلمة( شتّان بين التوافق والتنافق!).هو يضم مناضلين سياسيين موثوقا بهم ومشهودا لهم على المستوى الجهوي بنظافتهم واقتدارهم فلا مجال للمتطفلين أو الفاسدين أو الهاربين أوالمتهربين أو المال السياسي أو"السياحة النيابية".. ولا مجال فيه حتى لضرورة الدعاية الإنتخابية والرشوة التي تجعل احيانا من شخصيات نكرة "نوّابًا" وفيهم أحيانا من يصل بعدد هزيل جدا من الناخبين( كما وقع في بعض الدوائر بالخارج! ..).بل فيهم من يصل حتى ب"ضربة حظ" نتيجة غلطة وأميّة بعض الناخبين الذين يخطئون في مكان وضع العلامة!!. ولا مجال فيه للكذب عن الشعب وخداعه بوعود واهية كذبتها الوقائع، وهي اصلا لا تنطلي إلا على البلهاء..إنها مجرد لعبة من اجل المناصب والمكاسب.. لعبة دامية في أحيان كثيرة!...لعبة بالأوطان وبالشعوب.. رائف بن حميدة