في بلدتي الطيّبة، زمن الشباب، دأبت على مجالسة الكبار، بدل الأقران، لأستفيد وأستمتع بما تناقلوا روايته من الحكايات والأساطير والأمثال والعادات الصالحة لكتابة التاريخ المحلّي مع مصادر أخرى من مطبوعات ومخطوطات ونقائش. وها أنا اليوم، زمن الكهولة، أجالس الذين يفوقونني علما في اختصاصاتهم المختلفة عوض إضاعة الوقت في مجالس السياسة والرياضة والحياة اليوميّة على إيقاع طاحونة الشيء المعتاد. وهل ثمّة حديث ممتع ومفيد أكثر من حديث مع الصديق عبد الرزاق قراقب وأمثاله في المستوى العلمي والخلقي، وهو الباحث المتخصّص في التاريخ القديم، بل فيما قبل التاريخ، والمدير العام الأسبق للوكالة الوطنيّة للتراث، إذ يؤكّد لي بكامل الوطنيّة والاعتزاز حقيقة تشرح الصدر وتطرب النفس، هي أنّ هذا الشعب «العظيم» وهذه الأرض الخصبة قد ورثا شواهد على مئات آلاف السنين من الحضارة، أي على أكثر وأقدم بكثير من الثلاثة آلاف سنة التي أسرّها أحد المؤرّخين لأحد الحاكمين فتبجّح بها ظانّا أنّها الفوز الكبير ؟ كان لأستاذنا الجليل فضل تعريف الطلبة وكذلك الناشئة بتلك الحقيقة بالتدريس في الجامعة وعبر الإسهام في كتاب التاريخ لتلامذة السنة الأولى من التعليم الثانوي التي صارت موافقة للسنة السابعة في المرحلة الإعداديّة من التعليم الأساسي وفي كتاب التاريخ السنة الرابعة من التعليم الثانوي في النظام القديم وقد صارت موافقة للسنة الأولى في ذات التعليم في النظام الجديد. وتعلّق إسهام جماعته بمحور أو بدرس حول عصور ما قبل التاريخ بشكل مبسّط في الكتاب الأوّل وبشكل موسّع في الكتاب الثاني، منذ بداية التسعينات من القرن الماضي . وذلك ليعرف التلميذ أنّ تاريخ تونس لا يبدأ من قرطاج وعلّيسة، ولكن للأسف، هذا ما آل إليه الوضع الحالي إثر تقليص ذلك المحور ثمّ حذف ذلك الدرس ! في آخر جلسة مع الدكتور قراقب أطلعني على أخطاء تاريخيّة فادحة في الكتاب المدرسيّ المتداول حاليّا في مستوى السنة الخامسة من التعليم الأساسي بعنوان المواد الاجتماعيّة من تاريخ وجغرافيا وتربية مدنيّة، في سفر واحد . جاء في الصفحتين 17 و 18 من الدرس الرابع المتعلّق بالوحدة الثانية حول البلاد التونسيّة من عصور ما قبل التاريخ إلى العهد الروماني أنّ الإنسان القبصي (نسبة إلى قفصة وحضارتها القبتاريخيّة الممتدّة من الألف السابعة إلى الألف الخامسة قبل الميلاد) عرف تدجين الحيوانات. وهذا خطأ لأنّ هذا التدجين ظهر مع إنسان العصر الحجري الحديث (Néolithique) أي في فترة لاحقة للحضارة القبصيّة بما لا يقلّ عن ألفي سنة بداية من الألف الثالثة قبل الميلاد، تاريخ ظهور الكتابة وبداية العصور التاريخيّة . كما جاء في الوثيقة الخامسة تعليق على صورة ينسب حانوتا، أي قبرا منحوتا في الصخر، إلى الحضارة القبصيّة . وهذا أيضا خطأ لأنّ هذا التقليد الجنائزي يعود إلى فجر التاريخ وتحديدا إلى أواخر الألف الثانية أي سنة 1200 قبل الميلاد، وهو من عادات الشعوب المحيطة بالبحر الأبيض المتوسّط، نجده في شوّاش وسجنان من بلادنا مثلما نجده في مدائن صالح والحجر شماليّ المدينة بشبه الجزيرة العربيّة ولدى الأنباط في البتراء بالأردن . وهو تقليد لم يصل إلى قفصة وما جاورها إلى ما بعد تبسّة من أرض الجزائر الموغلة في ثقافة مختلفة هي الثقافة النوميديّة . كما جاء في الوثيقة السادسة تعليق على صورة تنسب كدسا من الحجارة المكوّرة والأدوات الصوانيّة والعظام الحيوانيّة إلى الحضارة القبصيّة . وهذا خطأ ثالث مأتاه أنّه عثر عليه في منطقة القطار من جهة قفصة قرب عين ماء مقدّسة به. والصواب أنّه يعود إلى الحضارة الموستيريّة من العصر الحجري الوسيط، أي إلى 35 ألف سنة ق . م . أي قبل بداية الحضارة القبصيّة ب 28 ألف سنة. وقد أعثرت عليه حفريّة بعمق بضعة أمتار، ونقل إلى متحف باردو للعرض ثمّ حفظ منذ بضع سنوات لتهيئة المكان من جديد. وهكذا يتبيّن أنّه لا علاقة بين تدجين الحيوانات والقبر المنقور في الصخر وكدس الحجارة وبين الحضارة القبصيّة . وبالتالي فالواجب إصلاح هذه الأخطاء الثلاثة الفادحة بمنشور وزاري عاجل في انتظار التنقيح في الطبعة الجديدة لكتاب الخامسة أساسي للمربّي والتلميذ من المغالط والمخالط حسبما تسهر عليه وزارة التربية مشكورة على تعاونها مع المختصّين والمقيّمين، والشكر مجدّد للصديق العالم وأصحابنا المتقاعدين وأنا أوّل المنتصحين بقراءة كتاب «تونس عبر التاريخ».