ينصّ دستور 27 جانفي 2014 في فصله 148 على أنّه يتمّ إرساء المحكمة الدّستورية في أجل أقصاه سنة من تاريخ الانتخابات التّشريعية. وها قد مرّت خمس سنوات على تلك الانتخابات والمحكمة لم تر النّور بعد. وتجاه هذا التّأخير، نرى البعض يلقي باللّوم على مجلس نوّاب الشّعب الّذي لم يتمكّن سوى من انتخاب عضو واحد من جملة أربعة أعضاء هو مطالب باختيارهم ليكونوا ضمن تركيبة المحكمة الدّستورية. وفي المقابل، لا أحد عاتب صاحبي الاختصاص الآخرين المطالبين بتعيين بقية أعضاء المحكمة. وهما رئيس الجمهورية والمجلس الأعلى للقضاء. ويكمن تفسير ذلك في أنّ الاعتقاد ذهب إلى اعتبار أنّ هنالك تمشّيا زمنيا في تعيين الأعضاء ينطلق من مجلس نوّاب الشّعب. وينتهي في رئاسة الجمهورية. بحيث لا يمكن المرور إلى المرحلة الموالية إلّا بعد استكمال المرحلة الّتي تسبقها. لكنّه اعتقاد يصعب في الحقيقة التّسليم به. ينصّ الفصل 118 من الدّستور في خصوص تركيبة المحكمة الدّستورية على أنّه « يعيّن كلّ من رئيس الجمهورية، ومجلس نوّاب الشّعب، والمجلس الأعلى للقضاء، أربعة أعضاء «. ولم يتضمّن النّصّ الدّستوري أيّ ترتيب زمنيّ في عملية التّعيين من قبل السّلط المؤهّلة لذلك. ثمّ جاء القانون الأساسي المؤرّخ في 3 ديسمبر 2015 والمتعلّق بالمحكمة الدّستورية ناصّا في فصله العاشر على أنّه « يتمّ تعيين أعضاء المحكمة الدّستورية تباعا من طرف مجلس نوّاب الشّعب والمجلس الأعلى للقضاء ورئيس الجمهورية. « والملاحظ هنا أنّه، من جهة، ذكر القانون سلط التّعيين حسب ترتيب مخالف لما جاء في الدّستور. و من جهة أخرى، استعمل كلمة « تباعا «. وهي كلمة غير موجودة في النّصّ الدّستوري. وإن كان كلّ هذا لا يعني بالضّرورة أنّه لم يقع احترام الدّستور، فإنّ القول بأنّ القانون أقرّ ترتيبا زمنيا في عملية التّعيين يتطلّب التّوقّف عنده. أوّل ما يمكن أن يقال في هذا الشّأن إنّه، من النّاحية اللّغوية، لا تعني كلمة « تباعا « في حدّ ذاتها أنّ هنالك تدرّجا زمنيا يجب احترامه. إنّما تعني، ببساطة، أنّ كلّ سلطة مطالبة، من جهتها، بتعيين أربعة أعضاء، وترجمتها respectivement ولا successivement. ولو أراد المشرّع أن يقرّ تدرّجا زمنيا، لعبّر عن ذلك بشكل صريح، كأن يقول : « يتمّ أوّلا تعيين أربعة أعضاء من طرف...ثمّ...». ومثل هذا التّوضيح ضروريّ في ظلّ عدم تعرّض الدّستور لهذه المسألة. ثمّ إنّ إقرار مثل هذا التّدرّج الزّمني لا معنى له. فما هي الغاية النّبيلة في علاقة بكفاءة الأعضاء وباستقلاليتهم الّتي يسمح هذا التّدرّج ببلوغها ؟ وما معنى أن نسمح لسلطة أن تمنع، بتقصيرها، سلطة أخرى من ممارسة اختصاصها الّذي ضمنه لها الدّستور ؟ ولا مجال هنا، بطبيعة الحال، أن نفكّر في غايات غير نبيلة لا تمتّ بصلة الى الصّالح العامّ، باعتبار أنّ المشرّع منزَّه مبدئيّا عنها. كما لا نجد في الأعمال التّحضيرية لقانون المحكمة الدّستورية ذكرا لمسألة تدخّل سلط التّعيين الواحدة تلو الأخرى حسب ترتيب زمنيّ ( انظر مداولات مجلس نوّاب الشّعب، خاصّة جلسة 19 نوفمبر 2015، ص 292-293 ). فلا مناص إذن من الاحتكام إلى مجلّة الالتزامات والعقود الّتي جاء في فصلها 532 ما يلي : « نصّ القانون لا يحتمل إلّا المعنى الّذي تقتضيه عبارته بحسب وضع اللّغة وعرف الاستعمال ومراد واضع القانون «. وهو ما يؤدّي إلى استبعاد فكرة التّرتيب الزّمني عند تطبيق الفصل 10 من قانون المحكمة الدّستورية. بل على العكس من ذلك، يقتضي التّطبيق السّليم للدّستور وللقانون أن تسارع كلّ سلطة، من جهتها، في ممارسة اختصاصها. فيتمّ التّسابق في الممارسة وإعطاء المثل الحسن، لا في الرّكون إلى الانتظار وإلقاء اللّوم على الغير. وبعد تعثّر مجلس نوّاب الشّعب في انتخاب الثّلاثة أعضاء المتبقّين، لو أقدم كلّ من رئيس الجمهورية والمجلس الأعلى للقضاء على ممارسة اختصاص التّعيين الموكل اليهما، لأمكن ربّما للمحكمة الشّروع في العمل بتسعة أعضاء، في انتظار استكمال التّركيبة. ثمّ من أين جاءت فكرة الفصل الصّارم بين سلط التّعيين الثّلاث. بحيث تمارس كلّ منها اختصاصها بمعزل عن غيرها. وكأنّ الأمر يتعلّق بسلط تنتمي إلى دول مختلفة ؟ هل حقّا يخدم هذا الأسلوب جودة المحكمة وانسجامها ؟ وما فائدة الحرص على الكفاءة والاستقلالية إذا آل الأمر إلى تواجد أعضاء يستحيل التّعايش بينهم ؟ ولعلّه يتمّ اليوم التّفكير في أسلوب للتّنسيق بين مجلس نوّاب الشّعب ورئيس الجمهورية والمجلس الأعلى للقضاء ليختاروا معا التّركيبة المثلى الّتي تضمن للمحكمة الدّستورية الرّفعة الّتي أرادها لها الدّستور.