يبدو أن معادلة تحقيق الاكتفاء الغذائي بما يُحقّق أمننا في المجال لن تجد طريقها إلى الحل في المدى المنظور.. ذلك أن حلّ هذه المعادلة يتطلب رؤى وخططا استراتيجية... ويتطلب سياسات رشيدة وحوكمة لا تترك شاردة ولا واردة. كما يتطلب قبل كل هذا شريحة جديدة من المسؤولين الذين يملكون من التجربة ومن الحرص والوعي ومن الحس الوطني ما يجعلهم أحرص على مصالح البلاد والعباد من حرصهم على أنفسهم وعلى مصالحهم وعلى عائلاتهم وعلى أحزابهم. نقول هذا أولا حين ننظر إلى الإمكانات التي حبا بها المولى بلادنا من إمكانات ضخمة قادرة على إعالة شعبنا وزيادة وقادرة على تحقيق الأمن الغذائي ومع ذلك فإننا نتلذّذ منذ عقود طويلة بتذوق الأزمات أزمة تلو أزمة.. وكأنما أصبحت الأزمات هي القاعدة وتوفير المنتوج هو الاستثناء.. وكأنما صار التعاطي مع الأزمات نوعا من الرياضة الوطنية التي يتمسك بها رهط من المسؤولين يشبهون الطحالب ويعشقون العيش بعيدا عن النور وعن الشمس لهثا وراء مصالح ضيقة لا يقدرون على تحقيقها إلا في فترة الأزمة وبركوب الأزمة.. غير عابئين بنزيف العملة الصعبة وغير مهتمين باحتياجات المواطنين وبضرورة تلبيتها واستشرافها بشكل يضمن ديمومة تزويد الأسواق. فهل يعقل بعد هذه العقود الطويلة من الاستقلال أن نغرق دوريا في أزمة حليب تحرق أعصاب الكبار وتدمر بطون الصغار؟ وهل يعقل أن تعاودنا أزمة بطاطا دوريا فنهرع إلى التوريد في الحالتين ولا نبالي بالمليارات التي ندفعها بالعملة الصعبة في حين نبخل بها عن دعم وتشجيع فلاحينا وارشادهم إلى سبل تحقيق الاكتفاء الذاتي.. وإعداد ما يجب من مخططات ومن مخازن وبنى تحتية لتخزين فائض الانتاج عند الطفرة حتى نتسلح به لزمن الندرة. ونقول هذا ثانيا لأن بلادنا طبّعت على ما يبدو -في كل المجالات- مع سلوكات الهدر واتلاف الخيرات. فقد قال رئيس اتحاد الفلاحين قبل أيام واستنادا إلى دراسات مرقمة إن حجم الهدر والاتلاف الذي يضرب منتوجنا الوطني يتجاوز نسبة الثلاثين في المائة. وإذا أضفنا إلى هذه النسبة المهولة ما يتكبده الفلاح بدءا بتكاليف اليد العاملة والأسمدة والأدوية والبذور ووصولا إلى 14٫5 هي نسبة الأداءات في أسواق الجملة.. إذا استحضرنا هذه اللوحة السوداء فإننا لا نملك إلا أن نخرج بقناعة مفادها أننا دولة مهيكلة للتعاطي مع الندرة ومع الأزمة وأن الوفرة تصبح أمّ المشاكل. ويجب العمل على ضربها ولو بالهدر والإتلاف.. ومفادها أن مسؤولينا قد تكوّنوا فقط للسباحة في مياه الأزمات الآسنة والراكدة ليحصّلوا منها الغنائم والمصالح.. وأما الأمن الغذائي وأما توفير حاجيات المواطن والحرص على العملة الصعبة وعلى ضرورة ترشيد الموارد الشحيحة فتلك مسألة مؤجلة. فهل يجب أن نبيد كل قطيعنا من الأبقار لتتأبد أزمة الحليب وبالتالي الحاجة إلى التوريد فيستفيد الجشعون؟ وهل يجب أن نحرق حقول الحبوب ونقلع أشجار الزياتين لنوقف معضلة الهدر والاتلاف ونحل معادلة العجز عن التعاطي مع الوفرة.. وهي في الأصل نعمة قبل أن يحوّلها الأغبياء والمستكرشون إلى نقمة.