تطبيقة جديدة: التصريح بالعملة عن بعد يدخل حيّز الاستعمال قريبًا    كيفاش تتصرف كي تشوف دخان أو نار في الغابة؟ خطوات بسيطة تنقذ بلادنا    الكرة الطائرة – كأس العالم للسيدات تحت 19 سنة: هزيمة رابعة لتونس أمام بلجيكا (فيديو)    الصباح ولا العشية؟ أفضل وقت للعومان    غرامات مالية تنتظر المخالفين لقواعد السلامة في البحر    هاو الخطر وقت تعوم في عزّ القايلة..التفاصيل    في موجة الحرّ: الماء أحسن من المشروبات المثلّجة    وقتاش تعطي الماء للرضيع من غير ما تضره؟    كأس العالم للأندية : نادي ريال مدريد يواصل تصدر الاندية الاكثر ربحا بحوالي 73 مليون يورو    يوم 8 جويلية: جلسة عامة للنظر في مشروع قانون يتعلّق بغلق ميزانية الدولة لسنة 2021    قائمة الفرق الأكثر أرباحًا في مونديال الأندية 2025 ... بعد انتهاء الدور ربع النهائي – أرقام قياسية ومكافآت ضخمة    عاجل/ للمطالبة بفتح المفاوضات الإجتماعية : إقرار مبدأ الإضراب الجهوي في القطاع الخاص بهذه الولاية..    الثلاثاء القادم.. تنسيقية القيمين والمرشدين التطبيقيين المتعاقدين تنظم تحركا احتجاجيا    ابن الملكة كاميلا ينفي صحة مفاهيم مغلوطة عن والدته    "القوات الشعبية" تتوعد "حماس" باستئصالها من غزة والفصائل ترد:"دمكم مهدور"    البكالوريا دورة المراقبة: هذا موعد انطلاق التسجيل عبر الإرساليات القصيرة..    عادل إمام يتوسط عائلته في صورة نادرة بعد غياب طويل بمناسبة عقد قران حفيده    "الزعيم" يظهر..ابتسامة غائبة تعود لتُطمئن القلوب    كيف تحمي حقك كسائح في تونس؟ رقم أخضر لاستقبال الشكايات    الى غاية 4 جويلية.. تجميع أكثر من 9 ملايين قنطار من الحبوب    انطلاق قمة "بريكس" في ريو دي جانيرو اليوم بمشاركة بوتين    نوردو ... رحلة فنان لم يفقد البوصلة    إلغاء إضراب أعوان شركة فسفاط قفصة    الصدمة الحرارية: خطر صامت يهدّد المصطافين... وتحذيرات متجددة مع اشتداد موجات الحرّ    بلدية مدينة تونس: تنظيف وتعقيم المسلك السياحي بالمدينة العتيقة    ارتفاع عدد قتلى فيضانات تكساس.. والبحث عن المفقودين مستمر    اليوم الأحد: الدخول مجاني إلى المتاحف والمواقع الأثرية والتاريخية    حرائق الغابات تنتشر في أنحاء أوروبا    كأس الجزائر - اتحاد الجزائر يحرز الكأس على حساب شباب بلوزداد 2-0    طقس اليوم: الحرارة في ارتفاع طفيف    سلاح الجو الأمريكي يعترض طائرة فوق نادي ترامب للغولف    تاريخ الخيانات السياسية (6) .. أبو لؤلؤة المجوسي يقتل الفاروق    مهرجان ساقية الدائر في دورته الثامنة: محرزية الطويل ومرتضى أبرز الحاضرين    بالمرصاد : لنعوّض رجم الشيطان برجم خونة الوطن    عاجل/ أول رد من حماس على مقترح وقف اطلاق النار في غزة..    إدارة الغابات.. إطلاق سراح طيور الساف التي تم القبض عليها لممارسة هواية البيزرة    خدمة مستمرّة للجالية: الخارجية تفتح أبواب مكتب المصادقة طيلة الصيف    في تونس: أسعار الزيوت تنخفض والخضر تلتهب!    الملعب التونسي: تجديد عقد اللاعب وائل الورغمي الى 2028    الليلة: خلايا رعدية مع أمطار متفرقة بهذه المناطق    غياب رونالدو عن جنازة جوتا يثير حيرة الجماهير    زغوان: تقدّم موسم حصاد الحبوب بأكثر من 90 بالمائة    هام/ تكثيف حملات المراقبة لمياه الشرب بهذه الولاية تزامنا مع ارتفاع درجات الحرارة..    مواجهة ودية منتظرة بين الأهلي المصري والترجي الرياضي    الصالون الجهوي لنوادي الفنون التشكيلية والبصرية بالمركبات الثقافية ودور الثقافة بمدينة مكثر يومي 11 و12 جويلية الجاري    "أوركسترا الفالس العربي الافريقي": موسيقى تتجاوز الحدود وتجمع الشعوب في المسرح الأثري بدقة    نهاية مسيرة خالد بن يحيى مع مولودية العاصمة: الأسباب والتفاصيل    وزير الفلاحة يؤكد حسن الاستعداد لموسم زيت الزيتون القادم وخاصة على مستوى طاقة الخزن    البنك المركزي: تطور مداخيل الشغل والسياحة خلال السداسي الأول من سنة 2025 وتراجع طفيف في الموجودات من العملة الأجنبية    الزهروني: تفكيك عصابة تخصصت في خلع ونهب مؤسسات تربوية    تشيلسي يتأهل إلى نصف نهائي كأس العالم للأندية بعد فوز مثير على بالميراس 2-1    التمديد في أجل التمتع بالمنحة الاستثنائية للتسليم السريع لكميات الشعير المقبولة    الشراردة: وفاة طفلة ال8 سنوات اثر سقطوها من شاحنة خفيفة    تذكير بقدرة الله على نصرة المظلومين: ما قصة يوم عاشوراء ولماذا يصومه المسلمون ؟!..    الفرجاني يلتقي فريقا من منظمة الصحة العالمية في ختام مهمته في تقييم نظم تنظيم الأدوية واللقاحات بتونس    فوائد غير متوقعة لشاي النعناع    تاريخ الخيانات السياسية (5): ابن أبي سلول عدوّ رسول الله    أفضل أدعية وأذكار يوم عاشوراء 1447-2025    









توازن القوى وانعكاساته على المنطقة المغاربية
نشر في الشروق يوم 18 - 06 - 2005

تمرّ العلاقات الدولية منذ سقوط الاتحاد السوفياتي بتحديات جديدة تتمثل في هيمنة دولة بمفردها هي أمريكا على تلك العلاقات.
قد أدّت هذه الهيمنة إلى حصول فوضى في العلاقات الدولية ناتجة عن دخول العالم في مرحلة انتقالية بين نظام عالمي قديم ونظام عالمي جديد وقد أصبحت الولايات المتحدة تتحكم في العلاقات الدولية بعقلية النظام الجديد مع استعمال آليات النظام العالمي القديم.
التفكير في مستقبل العلاقات الدولية مسألة في غاية من الأهمية فهل ان التوازنات العالمية ستبقى تحكمها الولايات المتحدة بمفردها وإلى أي مدى سيتواصل هذا الوضع، وهل ان الفوضى الدولية التي يعيشها العالم هي أمر جديد لم تعشه الانسانية أم هو جسر عبور نحو نظام عالمي جديد.
على عكس ما يردده الكثير فإن هذه الحالة ليست جديدة في تاريخ البشرية ففي الحربين العالميتين السابقتين شهد العالم مظاهر عنف وفوضى عارمة ورغم ذلك تمخض عن هاتين الحربين نظام دولي جديد ومع كل الانتقادات التي وجهت إلى نظام يالطا فإنه أبقى العالم خلف حدود منعت الانفجار الشامل.
فالفوضى الحالية ليست إلا جسر عبور نحو نظام عالمي جديد فمن ستكون القوى الممسكة بزمام النظام العالمي الجديد؟ وهل ستحكم هذا الأخير احادية أم ثنائية أم تعددية قطبية، ان محاولة استقراء المستقبل هو أمر على غاية من الأهمية فالكثير منا يذكر ان الاتحاد السوفياتي حاول في سنة 1948 الاقتراب من اسرائيل عن طريق اعترافه المبكر بها إلا أن هذا الجهد فشل آنذاك بسبب إدراك الكيان الصهيوني لأهمية التوازن العالمي مما جعله يرمي بثقله في الاتجاه الذي قدره رابحا.
فعملية الاستقراء والمتابعة أمر ذو أهمية بالغة وهو لا يقتصر على النشاط الديبلوماسي بل هنالك أكثر من طرف يمكنه أن يتحسس الآفاق المستقبلية.
من يراقب اليوم الحركة الديبلوماسية في العالم يلاحظ وجود خيوط تنسج علاقات جديدة من التقارب أو التحالف يغذيها رفض عديد الأطراف الفاعلة في الساحة الدولية أو يكون النظام الدولي الجديد أحادي القطبية فروسيا المنهكة تحاول أن تبقى في حظيرة الدول الكبرى عبر التقارب مع الصين، وأوروبا عموما ما انفكت تكرر في مناسبة وغيرها رفضها للأحادية القطبية.
وعلى عكس النظام الثنائي القطبية السابق الذي انضوت تحته الدول طوعا أم كراهية فإن النظام الحالي يتعرض لرفض شديد من معظم الدول وتتوافق في سعيها لاعادة ترتيب سلم القوى. وواضح ان منافسي أمريكا يحاولون العودة إلى مبدأ التوازن عبر التحالفات الثابتة. لكن التساؤل يتعلق بالمدى الزمني الذي ستستغرقه فترة الهيمنة الاحادية فمازال الجدل السياسي قائما حول ذلك في الولايات المتحدة أو خارجها، وقد ظهرت سلسلة من الكتابات الأمريكية الداعية إلى تكريس الوضع الراهن ومنع ظهور أية قوة جديدة تستطيع أن تنافس الدور الأمريكي وتفرض نفسها شريكا في توازن القوى. ففي نظر هؤلاء فإن التاريخ صنع لهذه البلاد فرصة يجب عدم التفريط فيها بل على الولايات المتحدة فرض النظام العالمي الجديد القائم على الأحادية وفرض الالتزام به دون خجل. لكن السياسيون الأكثر واقعية يذهبون إلى ان الاحادية ظاهرة عابرة سرعان ما يعقبها توازن متعدد القوى يطول ويقصر بحسب الظروف التي يمرّ بها ليؤول في الأخير إلى توازن ثنائي يكون سببا في اندلاع المواجهات الكبرى، وعلى هذا الأساس فإن الاحادية القطبية ظاهرة عابرة ولن تكون قادرة على الاستمرار، فلم توجد قط قوة استطاعت السيطرة إلى أمد طويل على مصير العالم. ومع الاتفاق على ضرورة زوال الهيمنة الأحادية إلا ان الخلاف مازال قائما حول المدة الزمنية، فهنالك من يرى انها سوف تستمر سنوات قليلة وهنالك من ذهب إلى انها ستستغرق عدة عقود. إلا أن الأحداث التي عاشها العالم منذ الحملة الأمريكية على العراق قد بينت أن مرحلة الهيمنة الأحادية هي في انحسار تدريجي لكنه محسوس وإذا كان من الصعب التنبؤ بتاريخ انحسارها النهائي إلا ان المؤشرات تبين انه لن يتجاوز العقد من الزمن، فمن الواضح ان قوى عديدة قد بدأت في الصعود، كما ان الطرف المهيمن قد بدأ في التراجع على أكثر من ميدان ففي الوقت الذي بدأت فيه الولايات المتحدة تعاني من كثير من الصعوبات، فإن هنالك تطورات مهمة منها التحدي على المستوى الأوروبي فالاقتصاد الأوروبي يندمج بصورة أكبر ويتوسع باستمرار سواء داخل أوروبا أو خارجها.
ان الاقتصاد الأوروبي لا يتوقف تحديدا على المستوى المادي بل ينطوي كذلك على تحد حضاري واجتماعي، فلقد استنبطت أوروبا نموذجا جديدا للنمو الرأسمالي وأصبحت الرأسمالية تقدم على نموذجين، النموذج الأمريكي الذي يعتمد على النجاح الفردي والربح السريع، والنموذج الألماني القائم على النجاح الجماعي والرؤيا البعيدة المدى.
ان ما بقي من التفوق الأمريكي حاليا هو القوة العسكرية وتعتقد أمريكا أن ضماناتها الرئيسية تكمن في تفردها بالقوة العسكرية فبواسطتها تستطيع أن تفرض سياساتها بالردع ولذلك فهي تحرص على استمرار تفوقها العسكري فلا بأس أن يكون لليابان أو ألمانيا دور اقتصادي، لكن يجب ان لا تكون لهما قوة عسكرية.
وفي هذا التوجه سعت الولايات المتحدة منذ انتهاء الحرب الباردة إلى اتباع سياسة نزع السلاح والحدّ من انتشاره وأصبح ذلك أهم أولوياتها، وهذه السياسة لا تستهدف بلدان العالم الثالث فقط بل هي موجهة ضد القوى الكبرى، فأمريكا سعت للسيطرة على الامكانيات النووية لجمهوريات الاتحاد السوفياتي وحصر هذه الامكانيات في روسيا وحدها، وهي امكانيات سيسهل فيما بعد السيطرة عليها خاصة وان اللوبي الصهيوني قد تغلغل إلى حدّ كبير في هذا البلد مستفيدا من الخبرة التي اكتسبها عند تسربه إلى مراكز القرار في الادارة الأمريكية، وبالاضافة لروسيا فقد حاولت أمريكا معارضة سياسة فرنسا النووية رغم ان فرنسا دولة حليفة لها، لكن الولايات المتحدة تعلم انه لا يوجد وضع قابل للديمومة.
من المرجح ان ينفلت سباق التسلح من جديد، وقد بدأ ذلك بالفعل بعد التفجيرات النووية لكل من الهند وباكستان، وإذا كانت الولايات المتحدة قد حققت بعض صور النجاح في تعاملها مع بعض الدول ذلك ان البرازيل والأرجنتين قد وقعتا منذ 1991 على اتفاق يسمح لوكالة الطاقة النووية بممارسة الرقابة المباشرة على تجهيزاتها النووية في كل المجالات، والتحقق من عدم تحويلها إلى المجال العسكري، وبذلك فقد تخلتا عن كل برنامج نووي عسكري، والشيء نفسه فعلته افريقيا الجنوبية عندما أعلنت في مارس 1993 على لسان رئيسها فريديرك دوكلير على قيامها في سنة 1991 بتدمير قنابلها النووية الستة التي كانت تملكها وعن تحويل البرنامج النووي العسكري إلى أهداف مدنية والتخلي عن كل طموح نووي. وقد فسّر المراقبون آنذاك بأن هذا الموقف يعكس رغبة الأقلية البيضاء بإيعاز من واشنطن والحلفاء الغربيين بعدم ترك قدرات نووية في أيدي السود اللذين كانوا يتأهبون لاستيلام السلطة، لكن أمريكا تواجه اليوم صعوبات كبرى فاليابان ليست بمنأى عن التفكير في الحصول على السلاح النووي إذ أعلنت منذ أوت 93 انها تدرس إمكانية انتاج هذا السلاح بسبب خوفها من نشوء قوة كورية موحدة تملك هذا السلاح، لذلك تجتهد الولايات المتحدة في تعطيل البرنامج النووي الكوري الشمالي حتى لا يكون ذلك تعلة اضافية لليابان لانتاج هذا السلاح، كما تسعى إلى الضغط على ايران بكل الوسائل خاصة وانها أصبحت على حدودها لاجبارها على العدول عن كل برنامج عسكري نووي.
هذه المحاولات المتواصلة والمضنية هل انها تصب في خانة المحافظة على الاستئثار بالقوة العسكرية الضاربة أو وقاية العالم من مخاطر الانزلاق في مواجهات نووية لا قدر اللّه. الثابت ان ما يهم الولايات المتحدة هو مواصلة الانفراد بالقوة العسكرية الضاربة، وهنا يمكن ان نذكر بمقولة هامة جاءت على لسان الحسن الثاني الملك السابق للمغرب انه إذا ملكت ثلاثون دولة القنبلة النووية من بين دول الأمم المتحدة فإن الآخرين يمكن أن يناموا مطمئنين.
رغم هذا المسعى الذي تتبعه الولايات المتحدة فإن مرحلة الهيمنة الأحادية التي اتسمت بالفوضى في كافة المجالات ستنتهي لتحل محلها مرحلة التوازن المتعدد الأقطاب وحسب المعطيات الموجودة فإن قوى عديدة تستعد لبلوغ هذه المرحلة ويجمع معظم السياسيين على أن القوى المرشحة لتشكل هذا التوازن، هي الولايات المتحدة وأوروبا والصين واليابان وروسيا لكن هذه الأطراف ستكون متفاوتة القوة، وربما يكون هنالك ثلاث منها فقط تتوفر فيها الشروط الكاملة في توازن قوى المرحلة الجديدة، وهي الولايات المتحدة وأوروبا والصين، ونعني بالشروط الكاملة سلامة البنية الاقتصادية والعسكرية. ان روسيا ستكون من آخر الصف لأن أوضاعها تسير نحو الانحدار ويتطلب الأمر انتظار جيل كامل على الأقل من أجل اصلاح العطب، أما اليابان فستكون قطبا اقتصاديا إلا أن القوة العسكرية التي هي احدى المقومات الضرورية للمواقع المتقدمة مازالت تنقصها إلى الآن.
اما ما يعوز الصين فهو نظرتها السياسية للعالم فهي نظرة تعتمد الحذر من الانغماس في المشكلات العالمية فهي أكثر اهتماما بمحيطها الجغرافي ومراقبة التوازن الاقليمي وهو ما أكدته الاحداث الأخيرة بمناسبة الأزمة العراقية. يبقى ان طرفي التوازن الأكثر فاعلية هما أوروبا والولايات المتحدة ومن المنتظر أن يتصاعد دور أوروبا في السنوات القادمة بل ان أوروبا ستتفوق على الولايات المتحدة في الميدان الاقتصادي.
ان كل المعطيات ترجح صعود أوروبا إذ انها بدأت تمتلك الارادة السياسية فهي عازمة على تحدي القطبية الأحادية، ولعلّ أفضل من عبّر عن ذلك هو الرئيس جاك شيراك، ففي كتابه «فرنسا جديدة فرنسا للجميع» دعا أوروبا وفرنسا إلى لعب دورهما العالمي وتحامل على هشاشة أوروبا تجاه النفوذ الأمريكي، الذي يترك آثاره على ثقافة أوروبا وذهب شيراك إلى ان محور هذه العملية هو التقاء الفرنسيين والألمان لبعث شيء جديد.
ما كتبه شيراك لم يكن مجرد بيان انتخابي فقد عمد إلى تجسيمه فيما بعد باجراء فرنسا لسلسلة من التجارب النووية لاستكمال قوة فرنسا الدفاعية كما اتبع سياسة جريئة وشجاعة في حرب العراق جعلت فرنسا وألمانيا لا تتورطان في هذه الحرب، على عكس ما وقع من الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتران سنة 1991 .
وقد أحدث موقف فرنسا هزة عنيفة في العلاقات بينها وأمريكا. ان فرص نجاح فرنسا في أن تقود هذه العملية وافرة للغاية، وذلك للاتفاق الكبير الذي تلقاه مع ألمانيا ثم ان فرنسا هي ثاني بلد زراعي بعد الولايات المتحدة وهي قوة ثقافية لها شأنها، وهي قبل كل شيء تمتلك الكبرياء القومي كعنصر ضروري في الصراع العالمي، وهو ما يؤهل الرئيس شيراك على مواصلة دوره كزعيم بارز على خطى الجنرال دي غول.
وتدرك أمريكا خطورة التوجه الأوروبي وهي تتمنى عرقلته او اختراقه، عن طريق أنقلترا التي تعتقد بأن دورها العالمي مرتبط بالدور الأمريكي، لكن هذا الاختراق على الأرجح قد تجاوزته الأحداث فقد انطلقت المسيرة الأوروبية صوب محطات قادمة.
ان توازن القوى المتعددة الأقطاب هو المرحلة القادمة وستشهد مرحلة التوازن المتعدد ظهور النظام الدولي الجديد في صيغته المحدثة أي النظام المكتمل بمؤسساته وقواعده التي تقبل بها القوى الرئيسية ولكن هذا النظام سيكون بدوره مفتقرا إلى العدالة وستجرى محاولات لتعديله.
ليس من الممكن تحديد المدى الزمني الذي سيستغرقه توازن القوى والاستقرار المترتب عنه، فقد يطول ليصنع قرنا ديبلوماسيا مثلما حدث بعد مؤتمر فيانا وقد يقصر ولا يستمر إلا عقودا قليلة مثلما حصل بعد الحرب العالمية الأولى والثانية.
ومهما كانت حكمة السياسيين فإن منطق التاريخ يقود للاستنتاج بحتمية تغيير موازين القوى حتى تقود حتمية التحالفات إلى بروز كتلتين قويتين متضادتين.
تلك هي حتمية التاريخ حرب فهيمنة أحادية فتوازن متعدد الأقطاب فتوازن ثنائي يؤدي للمواجهة، وما نعيشه اليوم هي دورة من دورات التاريخ فهي حتمية مميزة بدايتها لكنها من المؤكد انها تتشابه من حيث الجوهر مع دورات تاريخية سابقة.
لكن هنالك من يشكك في هذه الحتمية، بدعوى ان البشرية قد تطورت وهي تسير إلى أعلى درجات النضج لكن مع الأمل في أن تكون نظرة هؤلاء المتشككين هي الصائبة فإنه مازال أمام البشرية أشواط طويلة مثل ان ترتقي إلى مستوى حقيقي من التضامن بين الشعوب للحد من تأثير القوة في ترتيب العلاقات الدولية.
المهم ان هذه النظرة التفاؤلية لا نلمسها بالمرة في هذا العصر، لأن هذا الزمن أحببنا أم كرهنا تخيم عليه وتحكمه حضارة أمريكية السيطرة سطحية الجذور تقودها أمة حديثة النشوء، لذلك فمن الطبيعي ان تتأجج الصراعات في هذه الحضارة ولا تعوزنا الدلائل على تأجج الصراعات، فمنذ انفردت أمريكا بالهيمنة على العالم حتى اندلعت مئات الصراعات وتستقطب الضحايا بالملايين في فترة لم تتجاوز 14 سنة.
في ظلّ هذا المناخ العالمي كيف يمكن لشعوب المنطقة المغاربية ان تتصرف حتى تؤمن لنفسها دورا من خلال الأوضاع الاقليمية والتوازنات الفرعية.
أكيد ان أوروبا بزعامة فرنسا وألمانيا ترغب في إطار استراتجيتها المستقبلية إعادة التوازن في علاقتها مع العرب بصفة عامة والبلدان المغاربية بصفة خاصة، بعد ان كانت تلك العلاقات دائما في صالح اسرائيل. غير ان الأمن من الصعب أن يتغير في المرحلة الراهنة أو على المدى القصير، ذلك ان لاسرائيل نفوذا في أوروبا ماليا واعلاميا اضافة إلى نفوذها في الولايات المتحدة لكن لأسباب تاريخية واقتصادية وحتى أمنية تبدو فرنسا متحمسة أكثر من غيرها لايجاد اطار ينشط العلاقة بينها والبلدان المغاربية، حتى لا يكون الاتحاد الأوروبي مدفوعا أكثر من اللزوم نحو أوروبا الشرقية. كيف يمكن تنشيط هذه العلاقات خاصة مع ارتفاع حدة التنافس بين البلدان العشرة التي ستنضم للاتحاد الأوروبي في 2004 ودول جنوب المتوسط لاسيما بالنسبة للصناعات المعتمدة على التشغيل مثل النسيج والملابس والجلود والأحذية وهي قطاعات ستزداد فيها حدة التنافس باكتساح منتوجات شرق آسيا للسوق الأوروبية.
ان تطوير العلاقة بين دول الاتحاد الأوروبي ودول جنوب المتوسط تقتضي وضع خطة تتجاوز اطار الشراكة الحالية لتعتمد نظام الجوار، وهو نظام أشمل وأوسع يسمح للبلدان المغاربية بالاستفادة بجل حقوق الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ما عدا المشاركة في مؤسساته، وهذه الفكرة سبق لسيادة الرئيس زين العابدين بن علي ان طرحها في خطابه أمام البرلمان الأوروبي سنة 1995 ان أوروبا لها اهداف واضحة في هذه المرحلة لأنها تريد ان تتموقع كقوة سياسية وعسكرية قادرة على احداث التوازن مع الولايات المتحدة كما ترغب في اتساع أسواقها الاقتصادية باعتبار ان الفضاء الأوروبي المتوسطي يعد ثالث سوق عالمية بعد الصين والهند بما يقارب 700 مليون نسمة.
وهكذا تجعل أوروبا حرية انتقال بضائعها داخل الفضاء المتوسطي عامة والمغاربي خاصة. انه خيار استراتيجي لها بعد ان استأثرت الولايات المتحدة بالأسواق الآسيوية وأسواق الشرق الأوسط.
لكن إذا كانت هنالك أهداف محددة لدى الأوروبيين فما هي الفوائد التي قد تعود للمغاربة من جراء هذه الهيكلة الجغراسياسية الجديدة.
أكيد انه لا يوجد حتى الآن أهداف محددة ومشتركة بين البلدان المغاربية ذلك انه بالرغم من الجهود المضنية التي بذلتها تونس لدفع التعاون المغاربي المشترك فإن منطقة المغرب العربي مازالت غارقة في مشاكل مزمنة عاقت كل محاولات البناء الاقتصادي والسياسي المشترك وفي مقدمتها قضية الصحراء الغربية وقضية مخلفات لوكربي والوضع الأمني الداخلي بالجزائر الشقيقة وقد زاد الطين بلة المسار المنفرد الذي انتهجته موريتانيا في تطبيع علاقاتها مع اسرائيل.
وهذه المشاكل لم يكن تواجدها من قبيل الصدف فهنالك أطراف خارجية كان يقلقها إلى حدّ كبير التقارب بين أوروبا وبلدان المغرب العربي فساهمت إلى حدّ كبير في تأجيج الخلاف بين الجزائر والمغرب في قضية الصحراء الغربية وعصفت الجراح في خصوص الوضع الأمني داخل الجزائر واستغلت قضية لوكربي لتجعل ليبيا معزولة خلال فترة امتدت عقدا كاملا فليس من قبيل الصدف اختيار جيمس بيكر كوسيط دولي لحلّ النزاع بين المغرب والجزائر.
لذلك يبدو لقاء القمة الذي يجمع البلدان الأوروبية والبلدان المغاربية التي تعرف بقمة 5 + 5 والتي ستعقد بتونس في بداية سبتمبر 2003 هي فرصة تتوفر للبلدان المغاربية لطرح مشاكلها مع البلدان الأوروبية في إطار نظرة مستقبلية تتجاوز الحسابات الضيقة والأنانية المفرطة وصولا إلى تشجيع القطاع الخاص على الاستثمار ببلدان المغرب العربي عبر احداث بنك أوروبي متوسطي وتحرير تنقل الأشخاص واليد العاملة داخل هذا الفضاء عبر تبسيط اجراءات التأشيرة وصولا إلى الغائها.
وفي انتظار ذلك يجب على الأوروبيين أن يفهموا ان مشاكل أوروبا الأمنية لا يمكن فضّها بمعزل عما يدور بالمغرب العربي كما أن أي تعاون لا يمكن أن تتوفر فيه ظروف النجاح إلا إذا كان يعود بالفائدة على جميع الأطراف.
كما ان أي زعزعة لاستقرار المغرب العربي هو أمر لا يخدم مصالح أوروبا ذاتها بل يخدم مصالح غيرها، وللأسف الشديد لم تتفطن فرنسا لهذه المعادلة في عهد الرئيس ميتران الذي أظهر قصورا كبيرا في التعامل مع البلدان المغاربية لكن الرئيس شيراك تفطن لأهمية منطقة المغرب العربي وهو ما يفسر تحمسه في المدة الأخيرة في تجاوب كامل مع الرئيس بن علي على عقد هذا المؤتمر 5 + 5 في مطلع الشهر القادم بتونس.
لذلك ورغم المعادلات السياسية الصعبة يمكن لبلدان صغيرة في حجمها أن تلعب دورها في التوازنات العالمية عندما تتصف سياستها بالحكمة والمهارة وذلك هو قدر تونس.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.