لم يأت رئيس الجمهورية قيس سعيّد بجديد عندما قال في حواره الأخير لقناة "فرانس 24" إن بلادنا في حاجة إلى مناخ سياسي سليم لتطوير الاستثمار. فرغم الصورة المتميزة التي ظهرت بها تونس في الخارج سنة 2011 والتي أدارت إليها رقاب العالم بعد نجاح الأشهر الأولى من تجربة الانتقال الديمقراطي، إلا أن تلك الصورة تلاشت مع تقدم السنين بسبب تقلبات الشأن الداخلي وتوجه الطبقة السياسية نحو خدمة مصالحها الضيقة ودخولها في صراعات لم تنته إلى اليوم. وأثرت سلبا على الوضع العام وعلى صورة تونس في الخارج. على امتداد 10 سنوات، كان بالإمكان أن يكون الانتقال الديمقراطي الذي شهدته البلاد مصدر نجاح اقتصادي وقوة جذب للسياحة والاستثمار الأجنبي ومشجعا على الإصلاح وعلى تحقيق التنمية لو بادر القائمون على شؤون الحكم منذ العام الأول بتحمل المسؤولية والتحلي بأكثر وطنية قصد الإصلاح والإنقاذ وتطوير المنوال التنموي والاقتصادي وإرساء كل عوامل النمو الاقتصادي غير أن ذلك لم يحصل بسبب انخراط جميع السياسيين دون استثناء في "جنون" اللهث وراء الحكم ووراء خدمة المصالح السياسية والحزبية والشخصية. وحدها حالة عدم الاستقرار السياسي السائدة منذ 2011 إلى اليوم تتحمل مسؤولية ما بلغته صورة تونس في الخارج من تشويه ومسؤولية الفشل في الإصلاح والإنقاذ وفي تحقيق التنمية الاقتصادية وفي محاربة الناهبين والفاسدين. فالتغيير المتواصل للحكومات، بمعدل حكومة كل عام، والصراعات السياسية السائدة منذ 2011 إلى اليوم أنتجت دولة ضعيفة في التعاطي مع كل مظاهر الفساد والفوضى وتعطيل الإنتاج. وهو ما زلزل ثقة الخارج في دولتنا رغم إشادة كل العالم بنجاح تجربة الانتقال الديمقراطي في عامها الأول. طيلة الأعوام الماضية تسبب عدم الاستقرار السياسي الذي تعيشه البلاد في تعطيل جلب الاستثمارات الخارجية وتعطيل جلب السياح وفي تراجع الترقيم السيادي للدولة فضلا على تعطيل الاستثمار الداخلي. فالفوضى عمّت داخل أجهزة الدولة. وسادت معها كل مظاهر خرق القانون والفساد. وانتشرت الأوساخ في كل مكان ودمرت البنية التحتية وضعفت خدمات المرفق العام وتكاثر المهربون والناشطون في الاقتصاد الموازي... وكل ذلك بسبب نظام سياسي فاشل أضعف السلطة وحال دون وجود طرف وحيد يحكم ويمكن تحميله المسؤولية كاملة. اليوم، ورغم تواصل السير العادي لدواليب الدولة والإدارة وللحد الأدنى من الخدمات العمومية ومن الحركية الاقتصادية والتجارية والمعيشية، إلا أن ذلك لا يجب أن يحجب تواصل حالة عدم الاستقرار السياسي الذي تعيشه البلاد والذي أصبح مُهددا حقيقيا لتماسك الدولة وقدرتها على النهوض مُجددا. فالصراعات السياسية متواصلة والانقسامات داخل السلطة تشتد من يوم إلى آخر واهتمام الطبقة السياسية أصبح مقتصرا فقط على خدمة مصالحها الضيقة مقابل تجاهل تام للإصلاح الاقتصادي والتنموي ولخدمة مصالح الشعب والبلاد. كل الأطراف الفاعلة اليوم في الحكم من سلطة تنفيذية وتشريعية وأحزاب ونواب تتحمل مسؤولية حالة عدم الاستقرار الداخلي السائدة إلى الآن والتي سيستحيل معها أي أمل في الإنقاذ وفي استعادة صورة تونس المعهودة وفي استعادة ثقة الخارج فيها ما لم تعد هذه الأطراف إلى رشدها وتنزع فتيل الاحتقان السائد بينها. فالإنقاذ والإصلاح غير مُمكنين بسلطة تنفيذية يسود "رأسيها" التنافر والصراع وبسلطة تشريعية منشغلة بالحسابات السياسية وبأحزاب لا همّ لها غير بلوغ السلطة بكل الطرق الممكنة بما في ذلك ضرب أواصر الدولة والإضرار بمصالح الشعب. فاضل الطياشي