طوال العشرية الماضية، غابت عن عديد التونسيين ثقافة العمل القائمة على الكدّ والاجتهاد في إطار احترام القانون، وحلّت محلها ثقافة الجشع والرغبة في الربح السريع. وهو ما أدى إلى استفحال الأنشطة الممنوعة ومظاهر ال"كُنترة" والتحيل والفساد والرشوة والاستيلاء على المال العام وخرق قوانين المنافسة والأسعار والمضاربة بالسلع واحتكارها. ثقافة دمّرت أواصر الدولة وأنهكت الدورة الاقتصادية وأضعفت خزينة المال العام وجوّعت عديد التونسيين ووجدت لدى السياسيين والأحزاب ومسؤولي الحكومات المتعاقبة سندا لتتغول شيئا فشيئا عبر مختلف أنحاء البلاد ولتستهدف مختلف القطاعات والسلع بما في ذلك المواد المعيشية على مرأى ومسمع من الدولة ومن مختلف هياكلها.. وقد ساهم تساهل الإدارة ومختلف هياكل الدولة مع هذه المظاهر طيلة الأعوام المنقضية في مزيد استفحالها في ظل ضعف الرقابة والمتابعة وأيضا بسبب عدم الجدّية في منح التراخيص القانونية لعديد الأنشطة المشبوهة إلى جانب ما يتوفر من غطاء سياسي للمخالفين والمتجاوزين لتمكينهم من الإفلات من العقاب كلما وقع استهدافهم. وكشفت تحركات الدولة في الفترة الأخيرة أن "مافيات" الفساد والممنوعات أصبحت أقوى من الدولة من خلال تحكمها في منظومة السوق ومن خلال الشبكات العنكبوتية للفساد وخرق القانون المنتشرة في كل مكان. وهو ما حوّلها إلى قوة مالية ولوجيستية قادرة على مزيد فرض نفوذها وعلى مزيد الاستقواء على الدولة وعلى التمادي في أنشطتها ما لم يقع وضع حدّ لها. وقد شجع الربح المادي الكبير والسريع والثراء الفاحش الذي توفره مثل هذه الأنشطة الممنوعة على اتساع رقعة الناشطين فيها وعلى اتساع المجالات والقطاعات التي تستهدفها. حيث لم يترك هؤلاء مجالا إلا واستهدفوه بما في ذلك الغذاء والدواء والماء وقطع الغيار والمبيدات الفلاحية والأسمدة ومواد البناء والمواد المدرسية والصفقات العمومية والسلع والتجهيزات المختلفة بما في ذلك المدعومة.. وفي المقابل، غابت ثقافة العمل والكدّ والاجتهاد في إطار القانون، وغابت مبادرات بعث المشاريع الخاصة وتعطلّت العقول عن استنباط الأفكار التي تؤسس لمجتمع "نشيط" يخلق الثروة والقيمة المضافة للاقتصاد ويطور الناتج القومي. كما تراجعت مردودية العمل في القطاعين العمومي والخاص وتراجعت تبعا لذلك الإنتاجية وتدهورت أغلب المؤشرات الاقتصادية. وخلال سنوات الاستقلال الأولى وبعض سنوات نظام بن علي، ظهرت بعض بوادر ثقافة العمل لدى التونسيين وبرزت تونس آنذاك كمثال يُحتذى لدى بقية الدول في "الصعود" التنموي والاقتصادي والاجتماعي السريع. غير أن "التدمير" الذي شهدته ثقافة العمل في الأعوام الأخيرة مكن دول أخرى نامية من تجاوزنا بفضل إرادة شعوبها ومجتمعاتها وبفضل حزم حكوماتها في التعاطي مع هذه المظاهر. ورغم أن ثقافة العمل وتطوير المردودية والإنتاجية والابتعاد عن الممنوعات تقليد تكتسبه الدول بحرص من شعوبها ومجتمعاتها، إلا أنه لا مفرّ اليوم في تونس من تدخّل الدولة لفرضها. ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بالحزم والتشدد في تطبيق القوانين والصرامة في معاقبة المخالفين من أجل وضع حدّ ل"مافيات" الجشع والفساد والربح السريع. ويمكن أن تكون المرحلة الجديدة التي دخلتها تونس اليوم فرصة مناسبة لتتدخل الدولة وتفرض ثقافة العمل والمردودية والقيمة المضافة داخل الإدارة ومختلف هياكل الدولة، ولتشجيع الناشطين في القطاع الخاص على تطوير أنشطتهم وتحقيق القيمة المضافة للاقتصاد والتنمية، وأيضا لإدماج الاقتصادي الموازي في القطاع القانوني المُنظم.. وكل ذلك لتخليص البلاد أقصى ما يمكن من "ثقافة الممنوعات والكُنترة" التي استفحلت في الأعوام الاخيرة.. فاضل الطياشي