رغم إعلان رئيسة الحكومة مؤخرا جملة من الإجراءات لدفع الاستثمار، ومن بينها تبسيط الإجراءات وإزالة العوائق البيروقراطية، إلا أن الجزم بإمكانية تنفيذ هذا الاجراء تبقى مُستبعدة ما لم تُعجّل الدولة بالتعبير عن إرادة سياسية حاسمة وتقع ترجمتها بشكل سريع وصارم على أرض الواقع دون إضاعة مزيد من الوقت والتصدي لكل من يحاول تعطيله. وقد كشفت تجربة السنوات الماضية ان كل من تداول على الحكم تعهد بالتقليص من البيروقراطية ومن الإجراءات الإدارية المعقدة قصد تسهيل بعث الاستثمارات ودفع المبادرات، إلا أن ذلك ظل مجرد حبر على ورق، ولم تُحقق الدولة أي تقدم في هذا المجال، وهو ما أضر بمناخ الاستثمار في البلاد وتسبب في عزوف المستثمرين المحليين والأجانب. وعلى امتداد سنوات، ظل بعث مشروع استثماري أو مؤسسة صغرى حلما يُراود آلاف المستثمرين والباعثين الشبان. وهو ما تسبب في حالة ركود اقتصادي واستثماري غير مسبوق في البلاد بدأت نتائجه تظهر تدريجيا الآن من خلال ما أصبح عليه النسيج الاقتصادي من ضعف فضلا عن تفاقم أزمة البطالة و"هروب" بعض المستثمرين إلى دول أخرى. منذ سنوات وأهل الذكر يطالبون بالتقليص أقصى ما يمكن من الإجراءات الإدارية التي تعيق الاستثمار وبعث المشاريع، وبالتخلي عن عشرات الوثائق التي يتطلبها بعث مشروع أو مؤسسة، وبالتوجه نحو رقمنة مسار بعث المؤسسات ونحو آلية "الشباك الوحيد" ونحو توحيد معطيات الهوية ضمن منظومة مركزية، غير أن الدولة تعاطت مع هذه المطالب بلامبالاة غريبة. وقد اتضح مع تقدم السنوات أن هناك "قوّة" ما داخل الدولة لا تريد النجاح لهذا المسار حتى لا تُفتح أبواب الاستثمار وبعث المشاريع أمام الجميع وتبقى حكرا على "عائلات" او على "لوبيات" لا ترضى القبول بمن ينافسها. وهو ما يمكن ملاحظته في مفاصل مختلف الإدارات أو داخل البنوك ومؤسسات التمويل الصغير التي ترفض تمويل الاستثمار.. والأخطر من ذلك أن البيروقراطية والإجراءات الإدارية المُعقدة أصبحت بوابة واسعة نحو الفساد من خلال إجبار كل من يتقدم بمطلب بعث مشروع على دفع رشاوى مقابل الحصول على تسهيلات. كما أن بعث المشاريع والمؤسسات والاستثمارات تحول في فترة من الفترات إلى حكر على البعض بناء على توجهاتهم السياسية والإيديولوجية، وهو أمر خطير أدى مع تقدم الوقت إلى تهميش وإضعاف الاقتصاد تعطل الاستثمار وحرم الآلاف من موارد رزق ومواطن شغل. وما يثير الاستغراب هو أن تونس ظلت من بين الدول القلائل التي لم تستفد إلى الآن من الثورة التكنولوجية والرقمية ومازالت أغلب الإدارات فيها متشبثة بإجراءات بالية بعضها يعود إلى سنوات الاستقلال الأولى من قبيل التعريف بالإمضاء والنسخ المطابقة للأصل ومضامين الولادة الورقية ونسخة من بطاقة التعريف الوطنية والالتزام على الشرف وغير ذلك من الوثائق التي بالإمكان الاستغناء عنها.. ولا سبيل اليوم أمام الدولة للخروج من هذا الوضع المتخلف غير التحلي بالشجاعة والجرأة من أجل فرض التخلي عن كل أشكال البيروقراطية المعطلة للاستثمار داخل كل وزارة والتوجه نحو الاستفادة من التطور الذي تُتيحه الرّقمنة والاقتداء بتجارب الدّول التي سبقتنا في هذا المجال.. فكل الإمكانات متوفرة في تونس لتحقيق كل ذلك خاصة الكفاءات البشرية والبنية التحتية المتطورة للتكنولوجيات المتطورة، وتكفي فقط إرادة سياسية واضحة وصريحة وناجعة بعيدا عن الوعود المعتادة.. فاضل الطياشي