على الرغم من مظاهر الحياة العصرية التي التهمت الكثير من عاداتنا وتقاليدنا إلا أن ذاكرة البعض من المسنين مازالت تعبق بذكريات الماضي الجميل وتبعث فيهم مشاعر الحنين إلى رمضان زمان بما يحمله من معاني وعادات أوشكت على الاضمحلال من حياتنا الحالية. «الشروق» فتحت باب الذكريات الجميلة وتحدثت مع بعض المسنين الذين عاشوا زمانا غير زماننا هذا. إذا سألت تونسيا عن «المسحراتي» فإنه سيبتسم ويخبرك أنه يسمع عنه في حواري مصر وسوريا والأردن والعراق ودول الخليج العربي وسيتحسر على اختفاء مثل هذه الأشياء في بلادنا وعدم وجودها في تراثنا على غرار بقية البلدان العربية، وقليلون هم الذين سيؤكدون أنه مثلما أن هناك «مسحراتيا» في الشرق والخليج العربي هناك «بوطبيلة» في تونس، فالشخصية واحدة لكنّ الاسم يختلف. «فبوطبيلة» ورغم اختفائه الكلي في تونس إلا أنه مازال حاضرا في ذاكرة الكهول والشيوخ الذين ألفوا صوت طبله لسنوات بل لعقود طويلة. ويتحدث الممثل الزين موقو عن «بوطبيلة» قائلا: «لقد كان بوطبيلة من أهم مظاهر احتفائنا بشهر الصيام حيث يتولى مهمة ايقاظ الناس لتناول السحور عبر ضربات ايقاعية على طبله وعند انتهاء شهر الصيام يقوم بجمع الصدقات من الصائمين ونظل ننتظره حتى قدوم رمضان جديد. **ليالي الأنس مع مطلع شهر رمضان تنشط الساحات العامة في كل من باب الخضراء وباب سويقة والحلفاوين ويتجمع الناس في ساحة باب سويقة لمشاهدة «السحار» و»بخبوغ البخباني» وهو فكاهي يقدم مواقف ضاحكة ويقوم بحركات بلهوانية تضمن الترفيه عن النفس، هكذا تحدث الفنان الزين موقو عن أيام رمضان زمان ولياليه الحسان النيرات مضيفا ان ذاكرته مازالت تحتفظ بسهرات «الكافيشانطة» والحفلات التي أحياها كل من علي الرياحي والهادي الجويني وفتحية خيري ومجموعة من الراقصات». الخالة فطومة هي أيضا مازالت تحتفظ في عمق ذاكرتها بليالي رمضان وأيام كانت الحفلات والسهرات الفنية لا تنقطع إلى غاية موفى شهر الصيام وخاصة سهرات الكافيشانطة وتقول الخالة فطومة: «كنا نقصد باب سويقة بصحبة كافة أفراد العائلة لحضور هذه الحفلات المقامة باعتبار أن سعرها لا يتجاوز آنذاك نصف فرنك». **اللّمة العائلية تحدث السيد محمد (أصيل احدى المدن الساحلية) بكثير من الأسف عن الأجواء الرمضانية التي عرفها وعاشها خلال سنوات الخمسينات والستينات مؤكدا انها كانت أكثر روعة وجمالا فقد كانت العائلات تفضل الافطار الجماعي في بيت كبير العائلة الذي يشرع في سرد حكاياته على مسامع أبنائه وأحفاده حال فراغه من صلاة العشاء. ويؤكد السيد محمد أن اللّمة العائلية هي من أهم الأشياء التي أصبح يفتقدها التونسي في زمن الفضائيات التلفزية. وفي النطاق ذاته يجلس السيد عمر على رسم رمضان زمان مبينا أنه ورغم التفاف أفراد العائلة حول مائدة الافطار إلا أنهم سرعان ما يتفرقوا ويذهب كل إلى وجهته الخاصة على عكس أيام زمان حين كانت العائلة لا تتفرق إلا للنوم طوال ليالي رمضان حيث يستمتع الأحفاد والأولاد بحكايات الأجداد والجدات ويتبادل الأقارب الزيارات والهدايا في جو من الألفة والمحبة. **التصدّق والسهرات العائلية رمضان زمان فيه رائحة تفوح منها الرحمة والتآخي. فهو شهر الخير والبركة حيث يطعم فيه الفقير وتتآلف القلوب ويفرح الجميع بقدومه بالتزيّن والتنظيف واحضار عولة رمضان. هكذا تحدث السيد عبد الوهاب أصيل مدينة باجة. مضيفا ان من عادة أهل باجة التصدق يويا من وجبة الافطار والسهر حتى مطلع الفجر وتنظيم سهرات طربية ومجالس دينية وتبادل الهدايا بين العائلات وتبادل الزيارات والاحاطة بالفقراء. ويضيف السيد عبد الوهاب أن ذاك الجو الحميمي الذي طبع حياتنا قبل عدة عقود لم تبق منه إلا الذكريات الرائعة التي كلما نتذكرها نحس بحنين جارف إلى تلك الأيام الخوالي ونأسف لاختفائها من حياتنا نتيجة هيمنة المصالح الذاتية على كل ما هو انساني جميل. * ناجية المالكي