عمليا شرع الرئيس قيس سعيد من خلال لقائه بالأساتذة الجامعيين الذين يمثلون «عقل المجتمع» في التعبئة الوطنية La Mobilisation nationale حول مشروع مجتمعي جديد يبدو جليا أنه يسير نحو تحويل تونس إلى «صين جديدة». وربما تعمد رئيس الجمهورية خلال هذا اللقاء الربط بين رفض الإملاءات الخارجية وضرورة ترسيخ مفاهيم جديدة تقطع مع المسلمات القديمة ليؤكد أن ما يسمى «مشروع قيس سعيد» هو ثورة ثقافية تستهدف العقل البشري قبل أي شيء آخر . والواضح أن الرئيس قيس سعيد قد مهدّ لهذه الثورة الثقافية القائمة على الخصوصية التونسية من خلال ثلاثة مسارات مترابطة أولها إعلاء سلطان القانون وثانيها استعادة « النّعرة الوطنية» بالتكريس الفعلي لسيادة تونس على قرارها وثالثها التعويل على الداخل لمواجهة التحديات المالية حتى يستعيد الشعب ثقته في قدراته. هذه المسارات الثلاثة لا محيد عنها لبناء مجتمع جديد يعي واجباته قبل حقوقه كما يدرك أنه توجد دولة ضامنة لمناخ يكافئ الجهد والإبداع والتجديد بقدر ما يلفظ التواكل والفساد ومنطق «الخبزة الباردة» و«مسمار في حيط». وعندما تترسخ هذه المفاهيم ستتحقق الوحدة الوطنية وسيسير قطار المجتمع في اتجاه واحد ومن ثمة ستتكسر القيود التي طالما كبلت القدرات الخامدة حيث أن المشروع المجتمعي التقدمي لدولة الاستقلال وقف في منتصف الطريق وارتد على أعقابه في العشرية الأخيرة لأن «الشعبوية» عطلت محركاته الأساسية وفي مقدمتها ثناية الجهد والرفاه والتلازم بين الجزاء والعقاب. ومن خلال تخلص المجتمع من الفردانية ومنطق الغاب فإن النسيج الاقتصادي ذاته سيتعافى من أمراضه المزمنة الناجمة عن التشتت الذي يخّيم على كل القطاع دون استثناء ومنطق «الخبزة الباردة» وما نجم عنه من لوبيات وقوانين جائرة أغلقت الأفق أمام الأجيال الجديدة وأوجدت من ثمة الأرضية الخصبة التي ترعرع فيها أخطبوط الاقتصاد الموازي الذي يحتكر اليوم قرابة نصف الدورة الاقتصادية . وفي المقابل لم يغفل رئيس الدولة عن تبديد هواجس القطاعات الخاص الذي يجب أن يدرك أن وجود قطاع عام قوي سيفتح آفاقا واسعة أمام رأس المال الوطني داخل تونس وخارجها وأن يضطلع أيضا بدوره في بناء هيكلة جديدة للإقتصاد الوطني ترسخ التكامل بين الكبار والصغار وتطلق العنان للطاقات الشابة التي بإمكانها أن تعطي دفعا غير مسبوق للنمو الإقتصادي إذا تكسرت الحواجز القائمة أمامها. والواضح أيضا أن رئيس الجمهورية قد مهد لهذا البناء الجديد بسلسلة من المحطات التي تكرّس بالفعل مفهوم «قوة الدولة» فالثورة الثقافية تحتاج في المقام الأول إلى دولة تحكم بالفعل وفق تسلسل واضح للصلاحيات كما أن الشراكات الخارجية القادرة على إحداث تغيير جذري في التنمية الاقتصادية والإجتماعية تحتاج بدورها إلى دولة قوية تشتغل مثل الآلة وتقطع مع الفوضى التي كانت سائدة وجعلت مشاريع صغيرة تتعطل لسنوات طويلة بسبب مفاهيم بالية مثل «لجان الصفقات» و«تغيير صبغة الأرض» إلخ.. كما أنه من خلال التحاور مع الأساتذة الجامعيين فإن رئيس الجمهورية يعود إلى الأصل وهو محورية قطاع التعليم بوصفه محضنة المواطنة والتحضر والوحدة الوطنية التي تجعل على مواطن يستمد قيمته من الخدمة التي يقدمها للمجتمع وليس من تغول قيمة المال. وبالمحصلة فإن المشروع المجتمعي الجديد يعيد تونس إلى حالتها الخام التي كانت عليها في بدايات الدولة الوطنية قوة الدولة والمواطنة في في الداخل وإشعاع حضاري كبير كان متمركزا بالأساس في آسيا وإفريقيا. الأخبار