ليست كل المدن قادرة على سرد حكاياتها، لكن كركوان تلك الحاضرة الفينيقية التي صمدت تحت رماد النسيان، وجدت صوتها في عرض مسرحي حمل عنوان "سيدة كركوان".وقد تم تقديم العرض الأول لهذا العمل في سهرة الاثنين 28 جويلية على ركح مهرجان الحمامات الدولي في دورته 59 أمام جمهور كبير عاشق للفن الرابع والتاريخ. تستلهم "سيدة كركوان" أحداثها من لحظة مفصلية في التاريخ القرطاجي، وتحديدا خلال سنة 256 قبل الميلاد، حين شنّت القوات الرومانية بقيادة القنصلين "لوسيوس مانليوس فولسو لونغوس" و"ماركوس أتيليوس ريغولوس" هجوما ضاريا على مدينة كركوان، إحدى أهم الحواضر البونية الواقعة في الوطن القبلي (معتمدية حمام الغزاز بولاية نابل). وهذه المدينة التي صنّفتها منظمة اليونسكو ضمن التراث العالمي، لم تمسّها يد البناء منذ أن دمّرها الرومان، فبقيت شاهدة على براعة المعمار الفينيقي وثراء الحضارة البونية في شتى أبعادها الاقتصادية والسياسية والدينية. اختار المخرجان وجدي القايدي وحسام الساحلي أن يعيدا إحياء هذه اللحظة التاريخية عبر بناء درامي يزاوج بين التوثيق الفني والتخييل المسرحي، معتمدين على شخصية محورية مستلهمة من تابوت أثري حقيقي، اكتُشف في كركوان خلال سبعينات القرن الماضي، لتصبح "السيدة" صوتا دراميا يروي التاريخ ويمثل الذاكرة النسوية المنسية. وجاءت "سيدة كركوان" في تصور فرجوي يقوم على الجمع بين التمثيل والغناء والكوريغرافيا مدعوما بعناصر سينوغرافية رقمية مكنت من إعادة بناء الفضاء البونيقي بصريا. كما تمت الاستعانة بخلفيات متحركة أضفت عمقا على المشاهد من خلال تحولات الإضاءة وإيقاع الحركة المسرحية، وهو ما ساعد في إبراز الانتقال من مشاهد السلم إلى مشاهد الحرب. وقد تم توظيف اللغة الفينيقية في مشاهد كثيرة مع ترجمة فورية على الشاشة العلوية مما أضفى على العرض بعدا توثيقيا ومعرفيا نادرا في المسرح العربي. وتوزعت مشاهد العرض بين فصول تصوّر المدينة في ذروة ازدهارها التجاري والثقافي والعقائدي الديني، وأخرى توثق انهيارها العسكري والسياسي نتيجة التدخل الروماني. وهذا التنقل بين حالتين متناقضتين زمنيا وإنسانيا، أسهم في بناء تصعيد درامي واضح بلغ ذروته في المشاهد الأخيرة حيث تتقاطع المأساة الجماعية مع المصير الفردي لشخصيات العمل. ويمثل هذا العرض تجربة فنية نادرة في المسرح التونسي من حيث بنيته الفرجوية المتكاملة. فقد وُظفت فيه الفنون المسرحية والغنائية و الكوريغرافية بشكل متناغم، حيث اجتمع الأداء التمثيلي مع التعبير الجسدي والرقص والغناء في انسجام تام مع العناصر السينوغرافية الأخرى ما خلق جمالية مشهدية متكاملة. وما شدّ انتباه المتفرّج منذ اللحظة الأولى هو دقّة الأزياء وتطابقها مع الحقبة التاريخية التي تنتمي إليها المسرحية. فقد استعان فريق العمل بمراجع تاريخية لإعادة تصميم اللباس الفينيقي من أزياء الجنود إلى الأثواب المزخرفة لرجال الدين والنبلاء وملابس التجار والعامة من الشعب الباحث عن لقمة العيش، وصولا إلى الزينة النسوية التي عكست أناقة المرأة الفينيقية ومكانتها في الحياة الاجتماعية. وقد كان اللباس عنصرا دراميا فاعلا في العرض، إذ عبّر عن الفروقات الطبقية والمعتقدات والمناخ العام الذي ساد هذه المدينة في تلك المرحلة. استند النص إلى سيناريو صاغه باحثون في التراث هم خولة بن نور وشادية الطرودي وأمين خماسي. أما الأداء فقد شارك فيه أكثر من أربعين ممثلا وراقصا ومغنيا من ولاية نابل، منهم بالخصوص مريم العريّض في دور "سيدة كركوان"، إلى جانب منتصر بزّاز وعزيز بوسلام ونور عوينات وعز بن طالب وديما الساحلي وآخرين.. وتأسست الحبكة الدرامية على تقاطع بين حدث تاريخي موثق (اجتياح كركوان) وقصة تخييلية ذات بعد عاطفي وتتمثل في علاقة حب مستحيلة بين شخصيتين تنتميان إلى طبقتين أرستقراطيتين متنازعتين كرمز للصراع الطبقي والاجتماعي في تلك الحقبة. أما ما يستحق الإشارة هو أن الحب، في هذا السياق، لم يقدّم كخلاص وإنما كحالة إنسانية مهددة تعكس هشاشة الحياة داخل منطق الصراع والانهيار. ولذلك تفادى العرض الخطاب العاطفي السطحي لصالح مقاربة واقعية تنطلق من مشاعر الشخصيات لتفكيك بنيات أعمق تتعلق بالمقاومة والهزيمة والخيانة والتحالفات المتغيرة. وتطرح المسرحية قضايا متعددة دون أن تعتمد على خطاب مباشر. فالصراع بين كركوان حليفة قرطاج وروما لا يعرض كمواجهة بين خير وشر وإنما كتصادم بين نماذج حضارية ومصالح اقتصادية وجغرافية. أما الجانب الاقتصادي فكان واضح في تصوير كركوان كميناء استراتيجي ومورد طبيعي غني وقطب تجاري تهافتت عليه الإمبراطوريات. وقد برزت الهندسة المعمارية من خلال مشاهد رقمية واستحضارات بصرية لأحياء المدينة عكس التنظيم الفينيقي للفضاء والعلاقة بين الوظيفة والجمال في التخطيط العمراني. وظلّت شخصية "السيدة" التي أدّتها مريم العريّض محور هذا العرض. فكانت رمزا متجذرا في الثقافة التونسية لامرأة تقف على تقاطع التاريخ والأسطورة وهي صورة المرأة التي لا تنهزم مهما اشتدت المحن والتي تحوّل الحب إلى ذاكرة والخراب إلى شهادة والموت إلى حياة تروى. ونجح العرض في أن يوقظ الذاكرة البونية ويعيد قراءة التاريخ من زاوية إنسانية ونسوية وجمالية. وقدّم للمسرح التونسي تجربة غير مسبوقة في المزج بين الشعرية والبحث وبين الرؤية الإخراجية والعمق السينوغرافي. وللتذكير فإن الموعد يتجدد مع الموسيقى الشبابية والغناء في سهرة اليوم الثلاثاء 29 جويلية، في عرض يحييه الفنان السوري "الشامي" أمام شبابيك مغلقة، حيث يؤدي للجمهور باقة من أشهر أغانيه على غرار "دكتور" و"جيناك" و"تحت سابع أرض" و"دوالي" و"وين". الأخبار