لم تكن زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى واشنطن حدثا عابرا في المشهد السياسي الدولي، وقد طرحت الصور القادمة من البيت الأبيض بين دونالد ترامب وضيفه الذي دخل من الباب الخلفي تفاصيل رمزية تحرص الدبلوماسية الأمريكية في عهد ترامب على إخراجها بعناية، بحيث تختزل ملامح السياسة الأمريكية في بعدها الواقعي البارد القائم على الترويض قبل الاعتراف، والتنسيق قبل التحالف، والتقارب المشروط قبل التطبيع الكامل. مشهد الشرع وهو يشارك جنرالات المؤسسة العسكرية الأمريكية في مباراة ودية، ليس بريئا من حيث التوقيت ولا من حيث الرسالة، فهذه المؤسسة هي صاحبة اليد الطولى في تحديد اتجاهات السياسة الخارجية حين يتعلق الأمر بالأمن الإقليمي، وخصوصا في منطقة كمنطقة الشرق الأوسط التي لا تزال ساحة نفوذ وصراع، لذلك فإن «اللعب مع الجنرالات» هو في حقيقته دخول إلى بيت القرار الأمني الأمريكي قبل البيت السياسي، وإشارة واضحة إلى أن واشنطن ترى في النظام الجديد في دمشق شريكا أمنيا محتملا قبل أن تراه شريكا سياسيا كاملا. والرمزية هنا مزدوجة، فمن جهة، أرادت واشنطن أن تُظهر للعالم أن أحمد الشرع لم يعد «خصم الأمس» الذي كانت تُدرجه في خانة العداء أو الملاحقة، بل تحوّل إلى شخصية يمكن التفاهم معها على قاعدة التنسيق ضد التهديدات المشتركة، سواء تعلّق الأمر بمحاربة التنظيمات المتشددة أو بضبط النفوذ الإيراني في الميدان السوري، ومن جهة ثانية، أرادت أن تُذكّره هو نفسه، بأن القبول الأمريكي لا يُمنح مجانا، بل يُكتسب تدريجيا، وبشروط صارمة تُمليها موازين القوة ومصالح واشنطن أولاً وأخيرا. وفي اليوم التالي، حين دخل الشرع إلى البيت الأبيض من الباب الخلفي للقاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بدا المشهد أكثر وضوحا في دلالاته السياسية، ففي الأعراف الدبلوماسية الأمريكية يعني الدخول من الباب الخلفي دائما شيئا محددا مفاده وجود تواصل دون اعتراف رسمي كامل، وهناك لقاء، لكن في إطار أمني أو استخباراتي لا علني ولا سياسي معلن، فهي سياسة الباب الخلفي التي تعتمدها واشنطن حين تريد أن ترسل إشارات اختبارية دون أن تتحمّل كلفة سياسية أو إعلامية لهذا التواصل. بعبارة أخرى، واشنطن أرادت أن تقول إنها تفتح قناة مع دمشق، ولكن من دون التزام ولا ضمانات، وهو ما يعكس مقاربة براغماتية قديمة جديدة في السياسة الأمريكية تقوم على التعامل مع الواقع دون الاعتراف به، فالولايات المتحدة لا تمنح الشرعية مجانا، بل تستخدمها كأداة ضغط ومساومة، وإذا كانت قد اختارت أن تدخل في تواصل مع الشرع، فليس لأن النظام الجديد بات صديقا أو حليفا، بل لأنه أصبح ضرورة أمنية مؤقتة في معادلة المنطقة المعقدة. ومن الثابت أن المشهد يحمل في طياته رسالة داخلية للشرع نفسه، فدخوله البيت الأبيض من الباب الخلفي يذكّره بأن الاعتراف الأمريكي مشروط، وأن واشنطن لا تزال تتعامل معه في إطار «التجربة»، تماما كما تعاملت مع أنظمة أخرى في مراحل انتقالية مشابهة، وهو قبول قابل للتراجع، وتحالف ظرفي يمكن أن يُسحب في أية لحظة إن لم يتماهَ مع الرؤية الأمريكية في المنطقة. من زاوية أخرى، يبدو أن إدارة ترامب أرادت توجيه رسالة إلى الداخل الأمريكي أيضًا، مفادها أنها لا تفرّط في مبادئها المعلنة، ولا تتسرع في «تبييض» صفحة من كان يُعتبر قبل سنوات جزءا من محور معاد، خاصة وأن العلاقة مع سوريا لطالما كانت موضع جدل داخل المؤسسات الأمريكية بين من يدعو إلى الانفتاح عليها بحذر، ومن يرفض أي تطبيع قبل إصلاحات ملموسة على الأرض. فالزيارة بكل تفاصيلها تكشف عن منطق السياسة البراغماتية، فالولايات المتحدة لا تصادق أحدا بلا مقابل، ولا تُعادي أحدا بلا مصلحة، وأحمد الشرع، يبدو كمن اختار أن يسير على حبل رفيع بين تثبيت شرعيته الداخلية وكسب القبول الخارجي، ففي لعبة السياسة الأمريكية، من يدخل من الباب الخلفي قد يُفتح له الباب الأمامي لاحقا، أو يُغلق عليه الاثنان معا. هاشم بوعزيز