يقف العالم اليوم حائرا أمام مشهد مفزع يتكرر كل يوم في غزّة، فرغم وضوح الجريمة إلا أن الضمير الدولي يواصل الغياب. العالم الذي هب مرتجلا في هذه الايام لنصرة أوكرانيا، يطالب بوقف الحرب وتغيير نقاط الهدنة والسلام ، أمام غزّة بات لا يرى ولا يسمع ، لأن دم أهلها لا يعنيه. هذا التناقض الفاضح يكشف أن الإنسانية عند القوى الكبرى ليست قيمة ثابتة، بل ورقة تُستخدم حين تخدم الحسابات السياسية وحدها، فروسيا التي تفرض إرادتها على الساحة الدولية، وتركع الجميع أمام مصالحها يجتمعون ليلا نهارا خوفا من ترسانتها النووية. ما يوجع في هذه المأساة ليس حجم الدمار في غزة فقط، بل هذا البرود القاتل الذي تتعامل به العواصم المؤثرة مع معاناة شعب محاصر. فهذه القوى التي تسارع عادة إلى عقد القمم وتجميد النزاعات حين تتعرض مصالحها للخطر، تكتفي في غزّة ببيانات باهتة لا تمنع سقوط طفل واحد ليتحوّل هذا الصمت إلى شراكة غير معلنة، ويصبح الموقف الرسمي العالمي مجرد غطاء مهذب لعجز أخلاقي فاضح ولامبالاة مكشوفة. المؤسسات الدولية التي تأسست لحماية الإنسان فقد كشفت اليوم اكثر من اي وقت مضى حدودها بوضوح ، فمجلس الأمن يراوح مكانه بين "الفيتوهات"، والأمم المتحدة تصدر بيانات لا يتجاوز أثرها قاعات المؤتمرات، والمحكمة الجنائية تغرق في حسابات معقّدة تجعل العدالة مطلبا مؤجلا. كل ذلك يؤكد أن النظام الدولي فقد قدرته على الدفاع عن أبسط القيم، وأن نصوص القانون تتحول إلى توصيات ضعيفة حين يتعلق الأمر بغزّة. ومن المفارقات المؤلمة أن كلّ قوة تقول إنها تدافع عن السلام، لكنها تختار أوقات التدخل بحسب مصالحها الضيقة والدليل السرعة اليوم لنجدة اوكرانيا قبل ان يبتلعها الدب الابيض. الإعلام العالمي ساهم من ناخيته في تعميق هذا الانهيار الأخلاقي، فوكالات الانباء والقنوات الاعلامية والمنصات المؤثرة تصنع روايات مشوهة تغطي على الحقيقة، وتقدّم للجمهور نسخة منتقاة تُجمّل الجريمة وتبررها بل وتحجب الصور الحقيقية، وتستبدل اللغة الصريحة بعبارات تقنية باردة تجعل القتل يبدو إجراء دفاعيا. هذا الانحراف الإعلامي لم يعد مجرد خطأ مهني، بل صار مشاركة مباشرة في صياغة وعي مضلل، يجعل الضحية تظهر مذنبة والجاني مظلوما. ورغم هذا السقوط الرسمي الشامل، تظل الشعوب الاستثناء الوحيد ، فالمظاهرات التي خرجت في مدن كثيرة تعلن رفضها للقتل وتصرّ على تسمية الأشياء بأسمائها، تمثل روحا جديدة تتجاوز حدود الخطاب التقليدي بعد ان كسرت الجماهير حاجز الخوف، ورفضت أن تكون مجرد متلقّ سلبي. هذا الوعي الشعبي العالمي حتى إن لم يوقف الحرب فورا، فإنه يعيد ترتيب القيم ويفضح أصحاب الخطابات المزدوجة ويكشف نفاق القوى التي تختبئ خلف شعارات مزيفة. غزّة اليوم ليست مجرد مدينة تحت النار، بل امتحان مصيري لضمير العالم ، فمن يصمت يختار موقعه، ومن يبرر يكتب اسمه في قائمة العار ، ويبقى السؤال معلّقا: كيف سيذكر التاريخ زمنا شاهدت فيه البشرية كل شيء ولم تتحرك؟ . المطلوب امام الصمت العربي المريب الخانع الخاضع ، ليس مزيدا من الخطابات، بل موقف حقيقي يُعيد للإنسان قيمته. فغزّة، رغم الدم والحصار، ما زالت تقف بشموخ يعرّي ضعف العالم، وتذكّرنا بأن الضمير الحي هو الذي يصنع الفارق. راشد شعور