شهدت الساحة الدولية منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا عام 2022 تحوّلات عميقة أعادت رسم ملامح النظام العالمي، ووضعت القوى الكبرى ( روسيا ،الاتحاد الأوروبي، الولاياتالمتحدةالأمريكية) أمام اختبار استراتيجي حاد. ومع مرور السنوات، بدأت تتضح ملامح واقع ميداني وسياسي جديد، حيث تمكّنت روسيا-رغم العقوبات غير المسبوقة والدعم الغربي الواسع لكييف- من الحفاظ على قدراتها العسكرية والاقتصادية، بل والتقدّم ميدانيًا بصورة سمحت لها بالاقتراب من فرض سيطرة عملية على معظم الأقاليم الأربعة التي أعلنت ضمّها في 2022، مع منطقة عازلة في أقاليم أخرى خاصة مدينة خاركيف. وأظهرت التطورات الأخيرة في الحرب الروسية-الأوكرانية أن القوات الروسية حققت أسرع مكاسب إقليمية بوتيرة لم تشهدها منذ بداية الحرب قبل نحو 4 سنوات، وسط تعثر محادثات السلام وغياب توافق دولي على مسار التسوية؛ ما قد يفرض خريطة روسية جديدة لمستقبل الصراع. هذا التطوّر، سواء اتفقنا معه أو اختلفنا، يعكس أن الرهان الغربي على استنزاف روسيا لم يحقق النتائج التي سعى إليها واضعو الاستراتيجية في واشنطن ولندن وبروكسيل، حتى ان تقارير إعلامية غربية رجّحت فرار فلاديمير زيلينسكي إلى الكيان الصهيوني على خلفية هزائم قواته وخسارتها الأرض، والضغوط المتزايدة عليه. وبينما كانت الخطابات الغربية تتحدث عن «إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا» و «تحوّل موسكو إلى دولة معزولة»، كشفت السنوات اللاحقة عن واقع مغاير: اقتصاد روسي صمد أمام العقوبات ووجد بدائل شرقية، وجيش أعاد تنظيم نفسه واستفاد من التجربة القتالية، وتكيّف سياسي أعاد موسكو إلى طاولة المفاوضات العالمية من موقع قوة. في المقابل، وجدت أوكرانيا نفسها في وضع بالغ الصعوبة، بعدما تحوّل البلد إلى ساحة صراع مفتوح بين القوى الكبرى، فخسرت مئات الآلاف من شبابها، وتدمّرت بنيتها التحتية، وتعمّقت أزماتها الداخلية، لتتحول تدريجيًا من دولة تبحث عن «ضمانات أمنية» إلى ضحية مباشرة لصراع الإرادات الجيوسياسية الغربية. الأكثر تعقيدًا هو موقع الاتحاد الأوروبي الذي دخل الحرب سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، ورفع سقف المواجهة مع موسكو إلى أقصى حدّ، لكنه اكتشف لاحقًا أنه الطرف الأكثر تضررًا من تبعات الصراع. فقد خسرت القارة مصدرها الطاقي الأرخص والأكثر استقرارًا، وتدهورت علاقاتها الاقتصادية مع روسيا التي كانت شريكًا تجاريًا أساسيًا، بينما ارتفعت تكاليف الطاقة والصناعة داخل أوروبا إلى مستويات ضربت القدرة التنافسية للقطاعات الأوروبية الاستراتيجية. فعلى سبيل المثال يواجه الاقتصاد الألماني أعمق أزماته منذ الحرب العالمية الثانية، وقال رئيس «اتحاد الصناعات الألمانية» بيتر ليبنغر في بيان، إن ألمانيا صاحبة أكبر قوة اقتصادية في أوروبا «في حالة سقوط حرّ». ومع مرور الوقت، بدا واضحًا أن واشنطن هي الطرف الذي يدير المسرح السياسي والعسكري في أوكرانيا، فيما تم استثناء الأوروبيين من أي مسار تفاوضي أو خطة سلام جدية، رغم كونهم الأكثر دفعًا لفاتورة الحرب. هذا التهميش الأوروبي كشف عن مفارقة مؤلمة: الاتحاد الأوروبي الذي تحمّل العبء الأكبر، من العقوبات إلى استضافة اللاجئين إلى دعم كييف ماليًا وعسكريًا، وجد نفسه خارج دائرة اتخاذ القرار الحقيقي. أما واشنطن، فاستفادت من إضعاف العلاقة الأوروبية–الروسية، وجذب الاستثمارات الأوروبية إلى أراضيها، وتعزيز اعتماد أوروبا الأمني والعسكري على الولاياتالمتحدة. وبين نجاح روسي في تحقيق جزء كبير من أهدافها العسكرية، وفشل واضح في المقاربة الغربية القائمة على الاستنزاف، وضياع أوكرانيا بين وعود كبرى وصراعات القوى، يقف العالم اليوم أمام درس جيوسياسي قاسٍ: الحروب التي تُدار بعقلية الصراعات الكبرى لا تُبالي بثمن يدفعه اللاعب الأصغر، مهما كان حجم شعارات «الدعم» التي تُرفع حوله. بدرالدين السياري