الحرس البحري ينجد 11 بحارا كانوا على متن مركب صيد تعرض للعطب قبالة شاطئ هرقلة    جامعة التعليم الأساسي: ترسيم 850 عونا وقتيا مكلّفا بالتدريس    بودربالة والسفير الإيطالي يؤكدان ضرورة تكثيف الجهود لمواجهة ظاهرة الهجرة غير النظامية تعزيزا للاستقرار في المنطقة    وقفة احتجاجية لعدد من أصحاب "تاكسي موتور" للمطالبة بوضع قانون ينظم المهنة    العجز التجاري الشهري لتونس يتقلّص بنسبة 4،16 بالمائة موفى مارس 2024    كيف يتعامل البريد التونسي مع الحسابات المهجورة؟    توزر: المخيم الوطني التدريبي للشباب المبادر في مجال الاقتصاد الأخضر مناسبة لمزيد التثقيف حول أهمية المجال في سوق الشغل    الرئيس المدير العام لمركز النهوض بالصادرات: واقع المبادلات التجارية بين تونس وكندا لا يزال ضعيفا    نابل : الاحتفاظ بشخص محكوم بالسجن من أجل "الانتماء إلى تنظيم إرهابي"    الرابطة الأولى: إتحاد بن قردان محروم من جماهيره في مواجهة قوافل قفصة    عاجل/ التشكيلة المحتملة للترجي أمام صانداونز    بحوزتهم أسلحة بيضاء ومخدّرات: القبض على 23 مفتّش عنه في هذه الجهة من العاصمة    مأساة جديدة في المهدية: يُفارق الحياة وهو بصدد حفر قبر قريبه    تراجع إنتاج التبغ بنسبة 90 بالمائة    5 ٪ زيادة في الإيرادات.. الخطوط الجوية التونسية تتألق بداية العام الحالي    عاجل/ استشهاد 3 أشخاص على الأقل في قصف صهيوني لمبنى تابع للصليب الأحمر في غزة..    13 قتيلا و354 مصابا في حوادث مختلفة خلال ال24 ساعة الماضية    سوسة: حجز 716 قرص مخدر لدى مروّج    القيروان: تسجيل حالات تعاني من الإسهال و القيء.. التفاصيل    بن عروس: انتفاع 57 شخصا ببرنامج التمكين الاقتصادي للأسر محدودة الدخل    السعودية على أبواب أول مشاركة في ملكة جمال الكون    وقفة احتجاجية ضد التطبيع الأكاديمي    لاعب الترجي : صن داونز فريق قوي و مواجهته لن تكون سهلة    فريق عربي يحصد جائزة دولية للأمن السيبراني    صدور قرار يتعلق بتنظيم صيد التن الأحمر    إعلام هامّ من الوكالة الفنّية للنقل البرّي    هلاك كهل في حادث مرور مروع بسوسة..    تسجيل 13 حالة وفاة و 354 إصابة في حوادث مختلفة خلال 24 ساعة    الحكومة الإسبانية تسن قانونا جديدا باسم مبابي!    الرابطة الأولى: كلاسيكو مشوق بين النجم الساحلي والنادي الإفريقي .. وحوار واعد بين الملعب التونسي والإتحاد المنستيري    أخصائي في أمراض الشيخوخة: النساء أكثر عُرضة للإصابة بالزهايمر    حريق بشركة لتخزين وتعليب التمور بقبلي..وهذه التفاصيل..    وزارة المرأة : 1780 إطارا استفادوا من الدّورات التّكوينيّة في الاسعافات الأولية    تُحذير من خطورة تفشي هذا المرض في تونس..    دورة مدريد : أنس جابر تنتصر على السلوفاكية أنا كارولينا شميدلوفا    أمين قارة: إنتظروني في هذا الموعد...سأكشف كلّ شيء    بطولة انقلترا : مانشستر سيتي يتخطى برايتون برباعية نظيفة    البطولة الايطالية : روما يعزز آماله بالتأهل لرابطة الأبطال الأوروبية    "ألفابت" تتجه لتجاوز تريليوني دولار بعد أرباح فاقت التوقعات    وصفه العلماء بالثوري : أول اختبار لدواء يقاوم عدة أنواع من السرطان    طقس الجمعة: سحب عابرة والحرارة تصل إلى 34 درجة    تنزانيا.. مقتل 155 شخصا في فيضانات ناتجة عن ظاهرة "إل نينيو"    إثر الضجة التي أثارها توزيع كتيّب «سين وجيم الجنسانية» .. المنظمات الدولية همّها المثلية الجنسية لا القضايا الإنسانية    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    قبلي: السيطرة على حريق نشب بمقر مؤسسة لتكييف وتعليب التمور    الفنان رشيد الرحموني ضيف الملتقى الثاني للكاريكاتير بالقلعة الكبرى    وزيرة التربية : يجب وضع إستراتيجية ناجعة لتأمين الامتحانات الوطنية    جريمة شنيعة: يختطف طفلة ال10 أشهر ويغتصبها ثم يقتلها..تفاصيل صادمة!!    قبلي : اختتام الدورة الأولى لمهرجان المسرحي الصغير    تتويج السينما التونسية في 3 مناسبات في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة    خدمة الدين تزيد ب 3.5 مليارات دينار.. موارد القطاع الخارجي تسعف المالية العمومية    أكثر من نصف سكان العالم معرضون لأمراض ينقلها البعوض    طقس الخميس: سحب عابرة والحرارة بين 18 و26 درجة    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يريد قرنا آسيويّا:كيف قلّم بوتين أظافر الأمريكان ؟
نشر في التونسية يوم 02 - 12 - 2015


حاوره : مصطفى الشارني
تتسارع التطورات الدولية خاصة في الشرق الأوسط إلى تغيّر جوهري في هيكل النظام الدولي نحو مزيد من التعددية على الصعيدين الاقتصادي والإستراتيجي. وعكست قمة العشرين الأخيرة في أستراليا ومن قبلها قمة منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادي (آبيك) في بكين، تحديًا واضحًا للنظام أحادي القطبية بقيادة الولايات المتحدة، وتحركًا جادًا نحو تغييره من جانب مجموعة من الدول تتقدمها روسيا والصين. وهو أمر يبدو طبيعيًا، إذ تؤكّد نظرة إلى العلاقات الدولية وتطورها أن سيطرة أيّة قوة على قمة النظام الدولي مهما طالت مدتها إلى زوال. ويميل ميزان القوة الاقتصادية بوضوح لصالح القارة الآسيوية في ضوء الأجيال المتتابعة من النمور الآسيوية.
في دراسة نشرها لها المركز العربي للبحوث والدراسات تطرّقت الدكتورة المصرية نورهان الشيخ أستاذة العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة إلى الموضوع خاصة بعد دخول روسيا على مسرح المعارك الدائرة بسوريا.. وفي ما يلي الدراسة:
أولا: ملامح وأبعاد التغير في النظام العالمي
قد استطاعت مجموعة من القوى العائدة والصاعدة تحجيم الولايات المتحدة وإعاقة حركتها في مواقف عدة كان من أبرزها أزمة أوسيتيا الجنوبية عام 2008 والأزمة السورية التي بدأت في مارس 2011 ثم الأزمة الأوكرانية التي بدأت نهاية 2013 وما زالت تلقى بظلال واضحة ليس فقط على العلاقات الروسية الغربية وإنما على مجمل النظام الدولي، الذي يشهد تغيرات جوهرية تتمثل أبرز ملامحها في ثلاثة أبعاد أساسية.
أولها، أن خريطة القوى الاقتصادية امتدت خارج أوروبا والولايات المتحدة، ويميل ميزان القوة الاقتصادية بوضوح لصالح القارة الآسيوية في ضوء الأجيال المتتابعة من النمور الآسيوية. ففي آسيا ثاني أكبر اقتصاد عالمي ممثلًا في الصين التي تنافس بقوة للصعود للمركز الأول. وإلى جانب الصين واليابان يوجد في آسيا عشرة من أكبر عشرين اقتصادًا في العالم، حيث حققت دول مثل الهند وكوريا الجنوبية وماليزيا وإندونيسيا طفرات تنموية واضحة. صحيح أن بعض هذه الدول غير راغب في ترجمة قوته الاقتصادية إلى قوة عسكرية، وتظل خريطة القوى العسكرية لا تتطابق تمامًا مع تلك الاقتصادية الكبرى. إلا أن عددًا من الدول الآسيوية تعمل جاهدة في هذا الاتجاه، فالصين تعتبر ثاني أكبر إنفاق عسكري عالميًا، بفارق كبير، بعد الولايات المتحدة، وتنمو بها الصناعات العسكرية وتتطور التكنولوجيا في هذا المجال بثبات. وهناك أربع دول ذات قدرات نووية عسكرية في آسيا وهي الصين والهند وكوريا الشمالية وباكستان، ودول لديها قدرات نووية للاستخدامات السلمية فقط ومنها اليابان وكوريا الجنوبية.
إن القرن الحادي والعشرين هو القرن الآسيوي، والنظام الدولي يشهد تحولًا إلى هيكل متعدد القوى بصبغة آسيوية واضحة. يعزز هذا التراجع النسبي في القدرات الأمريكية لأسباب عدة أهمها تفاقم مشاكلها الداخلية الاقتصادية في ضوء الأزمة المالية منذ عام 2008، وتلك الاجتماعية بعد أن طفت قضية التمييز العنصري ضد السود في عدد من الولايات الأمريكية، إلى جانب فشلها في إدارة حملاتها العسكرية بأفغانستان والعراق، وكذلك في الملف السوري، وتعثر حملتها ضد «داعش»، وتراجع الثقة والمصداقية في الرئيس أوباما بعد عجزه عن إدخال كثير مما أعلنه حيز التنفيذ، يتزامن هذا مع تصاعد الأزمات في الاتحاد الأوروبي، واتجاه بريطانيا للانسحاب من الاتحاد. إن العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين شهد بدء حقبة جديدة في العلاقات الدولية تتضمن تحولًا تدريجيًا إلى نظام دولي متعدد القوى حيث تتراجع الهيمنة الأمريكية، وتلعب روسيا والصين وعدد آخر من الدول دورًا مهمًا وفاعلًا في الشؤون الدولية والإقليمية.
ثانيها، إرهاصات انقسام دولي جديد بين كتلتين مرة أخرى بمعطيات وأسس جديدة يغلب عليها الطابع المصلحي البراغماتي، حيث الانضمام إلى أي من الكتلتين طوعي على أساس تقارب المصالح والرؤى وليس أيديولوجيًا قسريا. وتضم الكتلة الأولى الولايات المتحدة وشركاءها في أوروبا وآسيا. وتضم الثانية روسيا والصين وشركاءهما في آسيا وأمريكا اللاتينية من الدول غير الراضية عن السياسات الأمريكية وتتطلع لوضع أفضل في النظام الدولي. وتعد مجموعة «البريكس» التي تضم روسيا والصين والبرازيل والهند وجنوب إفريقيا ويبلغ إجمالي ناتجها المحلي 21 بالمائة من حجم الاقتصاد العالمي، وتمتلك ما بين 30 بالمائة إلى 60 بالمائة من المخزون العالمي لمختلف الموارد، ومنظمة شنغهاي للتعاون والتنسيق الأمني التي تضم روسيا والصين ودول آسيا الوسطى، حجر زاوية لهذا المحور الذي سيمتد لجذب شركاء إقليميين في منطقة الشرق الأوسط وغيرها.
وقد عكست قمة منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادي (آبيك) الأخيرة في نوفمبر ببكين أحد أبعاد هذا الانقسام، حيث ركزت الولايات المتحدة على مبادرتها بعنوان «الشراكة عبر المحيط الهادئ» التي تستهدف إقامة منطقة تجارة حرة بين 12 دولة فقط وهي: أستراليا والولايات المتحدة وبروناي والشيلي وكندا وماليزيا والمكسيك ونيوزيلندا وبيرو وسنغافورة وفيتنام واليابان، وتستبعد منها روسيا والصين. في حين هاجمت روسيا المبادرة واعتبرتها محاولة جديدة من الولايات المتحدة الأمريكية لبناء هيكلية تعاون اقتصادي إقليمية تعود بالمنفعة عليها، واعتبرت أنه من المستبعد إقامة تعاون اقتصادي تجاري فاعل بين دول المجموعة في غياب لاعبين إقليميين كبيرين مثل روسيا والصين. وإنه على دول (آبيك) جميعًا وعددها 21 دولة بحث كيفية بلورة منطقة تجارة حرة كبرى في ما بينها، وهو ما تدعمه بكين بشدة.
إن القرن الحادي والعشرين هو القرن الآسيوي، والنظام الدولي يشهد تحولًا إلى هيكل متعدد القوى بصبغة آسيوية واضحة.كما تعتبر الطفرة الكبيرة في التعاون الإستراتيجي بين روسيا والصين مؤشرًا مهمًا على الاستقطاب الدولي الجديد، فقد كان لقاء زعيمي البلدين في نوفمبر 2014 على هامش قمة منظمة دول آسيا والمحيط الهادي هو الخامس خلال عام 2014، وتخلل ذلك وأعقبته زيارات عدة لمسؤولين من الجانبين، كان من أبرزها زيارة رئيس مجلس الدولة الصيني «لي كه تشيانغ» إلى روسيا ما بين 12 و14 أكتوبر 2014، والتي وقع خلالها 38 اتفاقية مشتركة للتعاون في مختلف المجالات. وتعوّل روسيا كثيرًا على الصين في إطار توجهها لتنويع أسواق الطاقة الروسية حتى لا تكون رهينة للتهديدات الغربية بتخفيض واردات الطاقة من روسيا، وكان من بين الاتفاقات الموقعة بين البلدين اتفاق حكومي بشأن إمدادات الوقود الأزرق عبر أنبوب «قوة سيبيريا» وهو الخط الشرقي لصادرات الغاز الروسي إلى الصين، الذي سيزوّد مناطق الصين الشرقية الصناعية بالغاز، وهي اتفاقية ضرورية ومكملة للمضي قدما في تنفيذ اتفاق تصدير الغاز الروسي لمدة 30 عاما بقيمة 400 مليار دولار الذي تم توقيعه بين الطرفين في ماي 2014. كما اتفق البلدان على مقايضة عملتي البلدين، الروبل واليوان، واستخدامهما في الحسابات التجارية الثنائية بديلًا عن الدولار. وسيكون لهذا تداعياته بالتأكيد على الاقتصاد الأمريكي خاصة في حال نجاح التجربة وتوسيع نطاقها لتشمل دولا أخرى غير راضية عن النظام الاقتصادي والمالي الحالي، نظام «بريتونوودز» الذي وضعته الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون منتصف الأربعينات من القرن الماضي.
ونظام الكتل الجديد ليس نظامًا جامدًا كسابقه خلال الحرب الباردة، ولكنه يتسم بالمرونة بحكم أساسه المصلحي وبعده عن الأيديولوجيات والقوالب الجامدة. ولذا فإن الدول المنتمية لإحدى الكتل قد ترتبط بشراكات وعلاقات تعاون وتفاهمات مع الدول في الكتلة الأخرى وفقًا لتوافق المصالح بين الجانبين.
ثالثها، إن روسيا تعتبر قاطرة معسكر التحدي للولايات المتحدة، وذلك بعد ما يزيد على عقد من انهيار القدرات الروسية وانكفاء موسكو على أزماتها الداخلية المتفاقمة، وما اقترن بذلك من تراجع في دورها الإقليمي ومكانتها الدولية، وقبولها بقيادة الولايات المتحدة للعالم في إطار نظام دولي أحادي القطبية. فقد خرجت روسيا من الحرب الباردة مهزومة سياسيًا ومنهارة اقتصاديا، وأكد القادة الروس مرارًا أنه لا عودة للشيوعية وصراع النفوذ، وسلموا بالنهج الأمريكي في إدارة الأزمات والقضايا الدولية والإقليمية، والذي انطوى في الكثير من الحالات على مساس بالمصالح الروسية، وأبرزها الضربات الأمريكية عام 1999على صربيا حليف روسيا وامتدادها العرقي والديني والثقافي في أوروبا، والتي دخلت روسيا الحرب العالمية الأولى دفاعًا عنها. كما قبلت موسكو بتمدد النفوذ الأمريكي في الجمهوريات السوفياتية السابقة، والذي وصل حدًا غير مسبوق من التغلغل العسكري والاقتصادي لم يكن متصورًا في منطقة كانت جزءًا من الاتحاد السوفياتي، ولا تزال تمثل المجال الحيوي لروسيا الاتحادية.
إلا أن قبول روسيا بالزعامة الأمريكية لم يكن عن قناعة أو رضا مطلق بوضع روسيا ودورها، وما كان صمت روسيا عن الهيمنة الأمريكية سوى ستار مرن يخفي عزم وإصرار الرئيس الروسي بوتين على إعادة روسيا لمكانتها ووضع حد للتهديد الأمريكي للمصالح الروسية متى سنحت الفرصة وسمحت القدرات الروسية بذلك. وعقب عقد طاحن من الانهيار الاقتصادي وعدم الاستقرار السياسي خلال التسعينات، بدأت روسيا في استعادة عافيتها، ومع نهاية العقد المنصرم كانت روسيا قد عادت لمصاف القوى الكبرى الفاعلة والمؤثرة اقتصاديًا وعسكريًا. وأخذت تعد العدة لتغيير قواعد إدارة العلاقات مع الغرب التي لا تتفق مع المصالح والمكانة الروسية، وفى مقدمتها تفرّد الولايات المتحدة باتخاذ القرار الدولي، وفرض الإرادة الأمريكية على الدول والشعوب، وتسيير الأزمات والقضايا الدولية والإقليمية وفق مسار أوحد يتفق والمصالح الأمريكية وحسب. هذا في الوقت الذي شعرت فيه واشنطن بنشوة النصر واعتبرت أن تصدّرها قمة النظام الدولي أمرًا غير قابل للتحدي أو التغيير.
ثانيا- مواجهات روسيا مع الولايات المتحدة
وكان طبيعيًا أن يؤدي ذلك إلى مواجهة بين الجانبين خاصة مع إدراك موسكو أن مهادنة الولايات المتحدة لها ليس لإدماجها في المنظومة العالمية والقبول بها كفاعل، وإنما لتحجيمها وتحويلها لتابع. وقد طفت هذه التناقضات على السطح مع بدء واشنطن نشر درعها المضاد للصواريخ في شرق أوروبا، في التشيك وبولونيا على بعد كيلومترات من الحدود الروسية. فقد اعتبرت روسيا أن الدرع الأمريكية تمثل تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، وتهدف إلى حرمانها من القدرة على توجيه الضربة الثانية الرادعة للولايات المتحدة في حال قيام الأخيرة بالهجوم عليها، ومن ثم يترك روسيا دون قوة ردع حقيقية تضمن أمنها وسلامة شعبها.
إلا إن التحدي الروسي الحقيقي لواشنطن برز خلال أزمة أوسيتيا الجنوبية 2008 التي صمدت خلالها روسيا في وجه الضغوط الأمريكية، وتعمق تحديها لواشنطن خلال الأزمة السورية منذ عام 2011 التي جاء الموقف الروسي منها مغايرًا للتوقعات، وأقرب للمواقف السوفياتية زمن الحرب الباردة، عندما كانت موسكو تقف بحزم في مواجهة واشنطن لحماية مصالحها وحلفائها. وكانت المبادرة التي أطلقتها موسكو لتدمير الأسلحة الكيمياوية السورية مقابل وقف الضربة العسكرية الأمريكية وعقد مؤتمر جنيف2، وانحياز غالبية أعضاء قمة العشرين لها ضد واشنطن، ناقوس خطر بالنسبة للنفوذ والهيمنة الأمريكية في المنطقة، حيث بدت روسيا وكأنها تقود مسار الأحداث بعد أن سلمت القوى الدولية والإقليمية الأخرى بالرؤية الروسية القائمة على ضرورة الانتقال السلمي للسلطة كطريق وحيد لتسوية الأزمة السورية واحتواء تداعياتها الكارثية. وتظل الأزمة الأوكرانية التي بدأت في نوفمبر 2013 هي الكاشفة والمؤكدة لهذا التغيير، وكان ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، درة أوكرانيا، صفعة قوية للغرب أدرك على إثرها ما أصبحت عليه روسيا من قوة ومكانة، وما تتطلع إليه في المستقبل.
وفي محاولة أمريكية للضغط على روسيا لتغيير موقفها من الأزمة الأوكرانية قامت بخلط ما هو سياسي بما هو اقتصادي وعسكري، حيث قام الغرب بفرض حزم متتالية من العقوبات على موسكو لم يسبق لها مثيل منذ الحرب الباردة، استهدفت قطاعات رئيسية في الاقتصاد الروسي هي الطاقة وصناعة الأسلحة والقطاع المالي، وطالت شخصيات روسية سياسية واقتصادية بارزة وشركات وبنوك. كما أعلن البنتاغون تجميد التعاون العسكري مع روسيا، وتم تجميد اجتماعات مجلس روسيا الناتو والتعاون بين الجانبين، واستبعدت روسيا من حضور قمة «الثماني الكبار» الأخيرة لتعود مجموعة «السبع» مرة أخرى. ومن الواضح أن الهدف من العقوبات ليس المساعدة في تسوية الأزمة الأوكرانية وإنما النيل من قوة روسيا الصاعدة ووضعها كعملاق للطاقة، يؤكد ذلك أن العقوبات الغربية الجديدة ضد روسيا تعيق عمليات تطوير واستخراج النفط من الحقول الصعبة، كما أنها تقوض عددًا من المشاريع في قطاع الطاقة خاصة مشاريع التنقيب في القطب الشمالي. وأيضًا تضييق الخناق على قوتها البحرية التي من المتوقع أن تتنامى بعد ضم القرم، وحصول روسيا على منفذ دائم على المياه الدفيئة.
إن الولايات المتحدة تحاول إحكام الخناق على روسيا، ورغم أن العقوبات يتم فرضها تحت غطاء معلن وهو «ضلوع موسكو في الحرب في أوكرانيا»، فإن الأمر يتجاوز الأزمة الأوكرانية إلى الصراع حول مكانة الدولة القائد في النظام الدولي، والتي تحاول واشنطن باستماتة الحفاظ عليها دون منازع في مواجهة الطموح الروسي المتزايد الذي أصبح واقعًا يهدد التفرّد الأمريكي بإدارة الشأن الدولي والإقليمي، ويطرح مصالح ومواقف مختلفة وربما متناقضة مع تلك الأمريكية تعرقل أجندتها الدولية وتحد من حرية حركتها.وفي خطوة لم يتوقعها الغرب اتخذت روسيا مجموعة من الإجراءات ردًا على العقوبات الغربية تضمنت حظر استيراد المنتجات الزراعية والمواد الخام والأغذية من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وكندا والنرويج وأية دولة قررت فرض عقوبات على هيئات أو شخصيات روسية. ويظل الاتحاد الأوروبي هو الأكثر تضررًا من هذه العقوبات، خاصة ليتوانيا وبولونيا وألمانيا والنرويج، ومن المتوقع أن تبلغ الخسائر الأوروبية من العقوبات الروسية ما قيمته 12 مليار أورو سنويًا، إلى جانب تردي أوضاع العاملين بقطاع الزراعة وما لذلك من تداعيات اجتماعية.
يتزامن ذلك مع تصاعد المواجهة بين روسيا وحلف شمال الأطلسي في ضوء استمرار سيطرة عقلية الحرب الباردة ونمط تفكيرها وسياستها إزاء موسكو على واشنطن وحلفائها، واتجاه الحلف لتعزيز إمكانياته الدفاعية بالقرب من الحدود الروسية في شرق أوروبا وخاصة بولونيا، وفي مياه البحر الأسود والبلطيق، وسعيه لتقويض النفوذ الروسي واقتلاعه من أوكرانيا وغيرها من الجمهوريات السوفياتية السابقة ونشر صواريخ عابرة للقارات في أوكرانيا، ودعوتها للمشاركة في المناورات العسكرية للحلف، ودعم القدرة القتالية للجيش الأوكراني لجعلها تتفق مع مقاييس الحلف تمهيدًا لضمها لعضويته. ولا تتصور موسكو أن يضم الحلف كييف التي كانت يومًا ما عاصمة روسيا، وأن يقف الحلف بقواته وترسانته العسكرية على أبواب موسكو. فأوكرانيا امتداد طبيعي لموسكو وسقوطها في الفلك الأورأطلنطي يعني خسارة روسيا مجالها الحيوي كله، وإحكام طوق واشنطن حولها.
ورغم التوتر الشديد والمتزايد الذي يكتنف العلاقات بين روسيا والغرب على خلفية الأزمة الأوكرانية، يستمر حرص الطرفين على عدم بلوغ الأمر حد المواجهة المباشرة أو الصدام المسلح بينهما. وقد يلجأ الطرفان إلى العقوبات الاقتصادية والتجارية، وقد تحدث مواجهات ديبلوماسية بينهما داخل مجلس الأمن، ويصل الأمر حد التراشق اللفظي والاتهامات المتبادلة في كثير من الأحيان، دون أن يُترجم ذلك كله إلى مواجهة عسكرية بين الطرفين يخرج منها الجميع مدمرًا ومهزومًا. إلا أن الحرص على تجنب المواجهة المباشرة أدى إلى عودة الحرب بالوكالة مرة أخرى بين الغرب وموسكو كما كانت عليها الحال زمن الحرب الباردة، حيث كانت الحرب بالوكالة سمة مميزة لها وكثيرًا ما كانت المواجهة السوفياتية الأمريكية تقوم بها أطراف أخرى كما حدث في كوريا وفيتنام وأفغانستان وأنغولا وغيرها، وهي أوضح ما يكون في الأزمة الأوكرانية حيث تدعم روسيا قوات الدفاع الذاتي في الشرق الأوكراني، في حين يدعم الغرب كييف سياسيًا وعسكريًا.
إنه صراع الإرادات وحرب تكسير العظام بين روسيا والغرب، ومن الواضح أن محاولات الغرب للتحكم في المارد الروسي الذي فاق من غفوته لم تكلل بالنجاح، وسيدرك الغرب عاجلًا أم آجلًا أنه لا يمكن عزل روسيا وأنها أصبحت أقوى وأكبر من أن تقاد أو تكون تابعًا، وأن السبيل الوحيدة للتعامل معها هو من منطلق الاحترام المتبادل والشراكة، وأن التحول إلى عالم متعدد القوى أصبح حقيقة لا يمكن تجاهلها، وأنّ القطبية الواحدة أصبحت من الماضي. كما ستأخذ روسيا وقتًا حتى تستعيد بعض الثقة في الولايات المتحدة ونيّات واشنطن تجاهها، وسيظل التناقض الإستراتيجي وأزمة الثقة هو السمة الغالبة للعلاقات بين الجانبين في المستقبل المنظور.
وسيلقي ذلك بظلال واضحة على العديد من الأزمات الإقليمية في منطقتنا وخارجها، ولن تكلل الكثير من الخطط الأمريكية بالنجاح نتيجة الهوّة في المواقف بين واشنطن وموسكو، وصمود الأخيرة بقوة في وجه السياسة الأمريكية. وقد كان هذا التأثير أوضح ما يكون على مسار الأحداث في سوريا، وفي تعثر التحالف الدولي ضد «داعش» التي تشكك روسيا في نيّاته وأهدافه الحقيقية، وترى أنه قد يستهدف قصف مواقع في سوريا، ودعم بعض القوى داخلها تمهيدًا لتقسيمها إلى دويلات. ويؤدي هذا إلى إطالة أمد الأزمات وتعقدها، واستمرار حالة عدم الاستقرار وتفاقمها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.