تعود منطقة البحر الكارييبي إلى واجهة التوتر الدولي مع تصاعد الحديث عن استعداد إدارة دونالد ترامب لشن حرب على فنزويلا، تحت غطاء فرض حصار بحري بدعوى محاربة عصابات المخدرات. هذا التحرك، وإن بدا في ظاهره أمنيًا، يخفي في عمقه أبعادًا جيوسياسية واقتصادية أوسع، ويعكس توجّهًا أمريكيًا قديمًا-جديدًا لإعادة ترتيب "الحديقة الخلفية" للولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية. ولا يبدو فرض الحصار البحري على فنزويلا إجراءً معزولًا، بل خطوة تمهيدية ضمن استراتيجية ضغط قصوى تهدف إلى إنهاك الدولة الفنزويلية اقتصاديًا وعسكريًا، ودفعها نحو الانهيار أو تغيير النظام. ففنزويلا، بما تملكه من أكبر احتياطي نفطي مؤكد في العالم، تمثل هدفًا مغريًا للإدارة الأمريكية، خاصة في ظل سعي واشنطن إلى ضمان أمن الطاقة والتحكّم في تدفقات النفط بعيدًا عن خصومها الدوليين. لكن فنزويلا ليست الهدف الوحيد، فالإدارة الأمريكية تنظر إلى ثلاثة أنظمة باعتبارها "عقبات" أمام نفوذها الكامل في المنطقة، فنزويلا وكوبا وكولومبيا، الأولى بسبب نظامها الاشتراكي وتحالفها الوثيق مع روسيا والصين وإيران، والثانية بسبب استمرار النظام الكوبي في تحدي الإرادة الأمريكية منذ عقود، أما كولومبيا فالمفارقة أنها حليف تقليدي لواشنطن، لكن وجود تيارات يسارية صاعدة وسعيها لقدر أكبر من الاستقلالية الاستراتيجية يجعلها محل قلق أمريكي متزايد. أسباب هذا التوجّه الأمريكي متعددة، أولها الخوف من تمدّد النفوذ الروسي والصيني في أمريكا اللاتينية، سواء عبر الاستثمارات، أو القواعد اللوجستية، أو التعاون العسكري، وثانيها الرغبة في إعادة تثبيت مبدأ "مونرو" بصيغة جديدة، يقوم على أن نصف الكرة الغربي مجال حيوي خالص للولايات المتحدة. اما ثالثها فهو الحسابات الداخلية الأمريكية، حيث تُستخدم القضايا الخارجية، خاصة تلك المرتبطة ب"الأمن القومي" و"مكافحة المخدرات"، لكسب نقاط سياسية وانتخابية، وهي أمور كلها سيكون لها ارتدادات كبيرة. وارتدادات هذه الخطوة لن تقتصر على فنزويلا وحدها، فأمريكا اللاتينية قد تدخل مرحلة جديدة من عدم الاستقرار، مع احتمال اندلاع مواجهات إقليمية، وتزايد موجات الهجرة، وارتفاع منسوب العداء الشعبي للولايات المتحدة. اما عالميًا، فقد تؤدي أي مواجهة عسكرية إلى توتر أكبر بين واشنطن من جهة، وموسكو وبكين من جهة أخرى، خاصة إذا قررتا دعم فنزويلا سياسيًا أو عسكريًا، ولو بشكل غير مباشر. لكن النقطة الأكثر إثارة للجدل في هذا كله، تكمن في التناقض الصارخ في خطاب ترامب نفسه، فالرجل الذي لطالما اعتبر حرب العراق "خطأً كارثيًا"، وقدّم نفسه بوصفه "رجل سلام" أنهى أو جمّد ثماني حروب، يبدو اليوم مستعدًا لخوض حرب عبثية جديدة، حرب لا تهدف في جوهرها إلى محاربة عصابات المخدرات، بل إلى نهب ثروات فنزويلا وإخضاعها، تحت عناوين أخلاقية وأمنية فضفاضة. في المحصلة، ما يجري في البحر الكارييبي ليس مجرد تحريك لقطع بحرية، بل إعادة رسم لخرائط النفوذ، ورسالة واضحة مفادها أن الولاياتالمتحدة تريد تأمين خاصرتها الجنوبية بالكامل، تمهيدًا للتفرغ لاحقًا للمواجهة الكبرى مع روسيا والصين، غير أن التاريخ يُظهر أن مثل هذه المغامرات غالبًا ما تكون كلفتها أعلى بكثير من مكاسبها. بدرالدين السياري