1 كان الجفاف... كان يا ماكان، في قديم الزمان وسالف العصر والأوان: هي الجملة التي تبدأ بها كل خرافة وهي تهيء سامعها وقارئها لاستقبال وعرض احداث جرت في الماضي من كان هذه سوف نبدأ الى أن تنتهي الى «صار». 2 الكتاب الأبعد كان يا ما كان الكتاب نادرا في الاسواق قبل عصر الطباعة، وكان الخطاطون والنساخون يحترفون نسخ الكتاب الذي يستغرق أمدا يطول او يقصر وكان كتّاب ذلك الزمان يقضّون أوقاتا طويلة وهم يطالعون الأسفار لدى الورّاقين وبعضهم كان ينام في دكّان الورّاق، وبعضهم كان لا يموت على الكتاب وحسب، فقد روي ان الجاحظ مات شهيد الكتب. 3 الكتاب البعيد وفي أيام جيلي، في الستينات، كان الكتاب نادرا في المكتبات العمومية وفي السوق، ويعسر العثور عليه الا بعد مشقّة لا يستطيع تحملها غير الصابرين على همّ القراءة. وكان الكتاب يطبع بصعوبة، ويصلحه المؤلف بصعوبة، ويصفّفه المطبعيّ حرفا فحرفا معدنيا. وكان لا يصل الى قارئه الا عبر شبكة توزيع منظّمة ومحكمة وبطيئة. وتجد الكتبيّ يعرف كتبه التي يبيعها ويحفظ عناويها عن ظهر قلب، وكان يجد متّسعا من الوقت ليعرف محتواها ويحدّد موقعها في رفوف مكتبته، ويحدّد بنفسه الكتب التي يعرضها في الواجهة. كان هؤلاء الكتبيون يتنافسون بالعلاقات مع دور النشر. وكان بعض القرّاء يوصي على الكتاب حتى يحصل عليه من صاحب المكتبة الانشط والأسرع. 4 ملكية الكتاب أما قارئ ذلك الزمان فكان، لندرة ما يملك من الكتب، فإنه يقرأها ويعيد قراءتها ثم يضع عليها ملاحظاته حتى يصبح الكتاب غير صالح إلا له وكان يحتكر كُتبه ولا يسلّفها الى أحد، لا ليصبح العارف الاوحد بين اولئك المتطلّعين الى المعرفة، ولكن لأن تسليف الكتب هو القانون، أما ارجاعها الى أصحابها فهو الاستثناء في أغلب الاحوال. 5 الكتاب النادر أذكر أني كنت أنتقل الى القيروان، وأنا ابن مدينة صفاقس الساحلية هروبا من النقاش السياسي الطاغي في مدينتي وعطشا الى النقاش الثقافي في مدينة البشير القهواجي ومنصف الوهايبي حيث الحديث عن جديد الشعر والمسرح والرواية، وأذكر أني بحثت بعطش عن ديوان «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» للشاعر المصري امل دنقل وقد قيل لي ان لا احد يملكه غير الشاعر الشاب عبد العزيز الهمامي، وكنت استعطفه قصد نسخه في المقهى، في القيلولة، في القيروان. وكان الصديق عبد العزيز يسلّفني اشعار البيّاتي حين أطلب من ديوان «دنقل». 6 الكتاب الممنوع وكان بعضهم يتفنّن في استفزاز اصدقائه بالقول انه يملك هذا الكتاب (المسموح به في السوق وفي القانون) ثم يماطلهم. أما الكتب الممنوعة فقد كان الواحد منا يستعمل معطفا في الصيف ليخفي مجلّدات من المؤلفات الكاملة للرفيق فلاديمير ايليش لينين، حتى يسلّمها لرفيق آخر في مكان غامض معتّم، ليقرأها هذا الرفيق في شكل سريّ للغاية وكأنه يطالع تقريرا من ملفّات خطرة لا يجوز تداولها بين الناس. وأذكر أن احدهم وعدني ب «الكتاب الاحمر» للرفيق ماو تسي تونغ، وظل يماطلني الى ان حصلت عليه من رفيق آخر كانت له نسخة بالفرنسية من «الليفر روج». كان الكتاب سرا يحمل برنامج تثوير المجتمع، وكنا في أواخر الستينات ومطالع السبعينات نشعر ان مهمّة تغيير العالم ملقاة على عاتقنا وكان علينا ان نرفع اعمدة المعرفة من اجل تغيير العالم. كانت الرغبة في القراءة موجودة وكانت الكتب مفقودة، وكان الصراع على الكتاب اصعب من الصراع على الرغيف. ويذكر جيلي ان الكتاب لم يكن ممنوعا في السياسة وحسب، بل تكاد رواية «الأم» لمكسيم غوركي ان تدخل في هذا الاطار، وكذلك اشعار ناظم حكمت التي كانت الى وقت غير بعيد ممنوعة في تركيا، بلد الشاعر، فضلا عن دواوين احمد فؤاد نجم ومظفّر النواب التي كنّا نحصل عليها مخطوطة بخط اليد، ذلك ان آلات النسخ وأدوات الطباعة لم تكن متوفّرة في السبعينات بالشكل الذي هي عليه الآن. 7 آداب اللياقة اليدوية وكان جيلنا يسرق الكتب من فرط الحاجة الى الطعام الفكري. ولم تكن السرقة من أجل السرقة ولكن من اجل القراءة او التوزيع على القرّاء الفقراء الذين يستحون من السرقة، او يخافون من أن يُمسك بهم، حين كنا تلاميذ نستهلك ولا ننتج لم نكن نعرف الاجابة عن السؤال التالي: ما هي السرقة حين تجوع العيون الى القراءة؟ سنة 1971 أو 1972 كنت تلميذا في صفاقس وزرت العاصمة من اجل معرض الكتاب الذي كان ينتصب في مقر الشركة التونسية للتوزيع (المرحومة) ومقرّها في شارع قرطاج. كانت دار العودة البيروتية تنشر الاعمال الكاملة للسياب وصلاح عبد الصبور، والبياتي وعمر أبو ريشة، وكانت منشورات نزار قباني في بدايتها، وأعمال نزار قباني الكاملة في تلك السنوات بخمسة دنانير وهو ما يوازي الان خمسين دينارا. وكانت مثل هذه الكتب وغيرها من منشورات الطليعة البيروتية مصدرا لانتاج اللهفة لدى القارئ العربي. طفقت أتجوّل بين الاجنحة وأملأ «ساكا» جلديّا بهذه المؤلفات ولم أكن قد تعوّدت بعد على زيارة مثل هذه الفضاءات الواسعة، وحين هممت بالخروج، أمرني احد الحراس الذي كان يقفو اثري بفتح «الساك» الذي كشّر عن الاعمال الشعرية المذكورة وافتضح امري وساقوني الى مكان بعيد عن الزائرين وعندما عرفوا أني سوف اتخرج بعد عامين معلّم صبيان قالوا لي كلمة نابية «هل أنت ستعلم السرقة للاجيال القادمة؟» بلعت ريقي ونفضت «الساك» وأخلوا سبيلي. ولكني لم أتب نهائيا عن السرقة الا بعد ان اصبحت صاحب مرتّب شهري قار مقابل تدريس التلاميذ حب الكتاب. 8 الكتاب او الطعام العلاقة بالكتاب كانت علاقة حاجة الى الطعام. لم نكن نسرق الكتبيين الصغار لعطف عفويّ على هؤلاء الذين نعتبرهم من البرجوازية الصغيرة الذاهبة الى الفقر، بل كنا نتوجه الى المحلات المكتبية الكبرى ونتسلّح بقارئ عسّاس، او قارئة تؤمّن الجريمة في ظروف طيّبة، ثم نخرج محتجين على فقر المكتبة وخلوّها من الكتاب المبحوث عنه. وقد تضطرنا الحاجة الى كتاب ما، وتتعبنا الحيلة للحصول عليه، وحين لا نجده الا عند مكتبيّ صغير فقير فإن ضميرنا يوبّخنا ونشعر بالندم الذي لا تمحوه الا فتوى قالها احدهم وهي تنصّ على ان كل سرقة حرام الا سرقة الكتاب وكان احد الظرفاء يُطلق على مثل هذه العمليات اسم «اللياقة اليدوية». 9 الكتاب الذي في الذاكرة هذه ليست اعترافات او مذكّرات، ولكن الذي ساقني لسردها هو الحديث عن منزلة الكتاب في حياة جيل عمره خمسون عاما. لقد كان الكتاب مفقودا، وكان القارئ مولودا يشعر ان نموّه، مع ذلك الجيل جيلنا، وأن نموّه لن يكتمل الا بالكتاب والقراءة والمعرفة. لم يكن امر الكتاب ميسورا في تلك السنوات التي تميّزت بالعطش الى القراءة، وندرة الكتاب. 10... وصار الطوفان كان ذلك في الماضي القريب، أما الان فإن وسائط المعرفة تعدّدت وتنوعت وصار بامكان المرء ان يطير الى المعلومة وهو لا يبارح عشه، وهذا موضوع عصفور آخر.