تصدير: «إننا لا نحيا إلا على متناقضات، ومن أجل متناقضات: فليست الحياة إلا مأساة وصراعا مستمرا لا يعرف الإنتصار، بل ولا حتى أمل الإنتصار.. إنها تناقض ولا شيء سوى التناقض..» (أونامونو Unamuno) في فصل الخريف تغادرني الكلمات والمعاني التي لم يزل مداها يغريني، إني حقا لم أزل أجهل إلى أين ستقودني قدماي على هذا الخريف، هي ذي الحقيقة تسخر مني وتعلن قرار الرحيل بدلا عني.. اجتاحني سؤال رهيب.. سؤال لم يزل يعبث بأقداري ويسخر من أولى أمطاري، لم يولد الموت من رحم البدايات؟ كل البدايات تسخر مني.. وتقتل قصيدة انبثقت فجأة في الفنجان الذي راقص قهوتي السوداء في ساعة متأخرة من الليل. سؤال رهيب يعانقني، والحقيبة لم تزل تعلن على الملإ قرار السفر.. ابتسمت في صمت ورحت أجمع أشيائي الصغيرة وأدسها في ذات الحقيبة التي لطالما زرعت بداخلي بذور خوف أعرج! يا لتفاهة الحقيقة! من سيعلمني فلسفة الخريف، إني أجهلها وأجهل سبب الحزن الذي أغرق الكلمات في بحر الهذيان!. فجأة أحسست بالاختناق، بالدوار، بأن الزحام يمنع عني التنفس، ورأيت أقنعة وتماثيل ووجوها لا تسكن مدني الصغيرة.. رأيتهم جميعا يشيرون إليّ بأصابع الاتهام.. لا! لا! أنا لم أرتكب أي جريمة.. لم أطلق النار يوما.. ولم أعلن موت القصيدة.. أنا لم أغادر مدن الشعر لحظة ولا حزن الكلمات.. لم أغادر مدن السؤال ولا وهم البدايات.. لم يزل لوركا يحتل مدني ويمنحني موتا أشهى من الحياة.. إني أحلم بعالم مضيء فلا قمع ولا استجواب.. ولا حدود.. ولا إرهاب.. إني أتوق لشمس ترفض الغبار وشهب المستحيل.. لكن في غمرة قمة جنوني البدائي، سمعت أصواتهم تقول ما هذا الهذيان؟ ما معنى بوابة السؤال ووهم البدايات؟ من يكون لوركا والحوت الأشهى من الحياة؟! قفزت فجأة من مكاني، احتويت حقيبتي بكلتا يدي ورحت أعدو وبداخلي خوف عميق.. حزن عميق.. تعاسة عميقة.. وبرد يجتاحني بحجم البحار.. كنت أجري بأقصى سرعة لأني أخشى أن يلحقوا بي ويعيدونني إلى كهف مظلم يسيرون فيه جيوش نمل لا تملّ الانتظار! لا تمل ترديد شعارات جوفاء والنوم العميق كلما اعترضتهم سخرية المساء.. توقفت فجأة في منتصف الشارع الطويل! أحسست بالإرهاق.. بالحزن.. بالخوف الشديد.. هذه المشاعر الرهيبة تسكن أعماقي وتعلن ولادة المطر في أحداقي.. فجأة عاودني ألم السؤال: لم يولد الحوت من رحم البدايات؟! ورحت أبحث عن شمس الخريف عساها توقف هذا الصراع الذي أدلهم بداخلي.. ولكني فجأة سمعت مواء ولمحت قطة صغيرة تعبر إلى الضفة من الشارع الطويل.. غمرتني سعادة لم أعهدها من قبل.. إني حقا لست أدري السبب، ووجدتني أعدو باتجاهها وآخذها بين ذراعيّ برقة بالغة.. نظرت إليّ وقرأت صفحات أمل وفرح في عينيها.. حينها فقط ولدت بداخلي أسئلة بحجم أشيائي الصغيرة! ورحت أردّد ببراءة ا لأطفال: لا! أنا لم أطلق النار يوما.. ولم أعلن موت الكلمات.. أحلامي صغيرة.. وحلمي لم يكن يوما مستحيل.. إني أبحث عن ملامح الدرب الطويل! أحسست فجأة بقشعريرة في بدني، انتبهت وكانت قطرات المطر قد بللت شعري ووجهي.. لكني كنت سعيدة بما يكفي، ووجدتني أحضن قطتي الصغيرة في رفق، أحمل حقيبتي وأحتمي بالمحطة المنتصبة في ركن صغير من الشارع الطويل.. كانت القطة تنظر إليّ وقرأت صفحات الأمل والفرح تتراقص في عينيها.. لكني لم أقرأ الصفحة الأخيرة من ذلك الكتاب المفتوح.. كانت تلك الصفحة تزدحم بالغموض.. بالامتلاء.. بالفراغ الرهيب.. ومرة أخرى غرقت في بحر من الصراع بين المتناقضات واكتظت جمجمتي بالقرارات! قرار الرحيل يستفزني ويسرق وهم اللحظات! يا لسخافة المشهد، أين الوجود من العدم، أين المفرد من العدد، أين الامتلاء من الفراغ، أين البدء من الموت على أرصفة السؤال، أين أنا من هذه الذات ولماذا؟! لماذا يولد الموت من رحم البدايات؟! عبثا حاولت الصمود، لكني أحتاج إلى نهر من الدموع.. ما أشهى البكاء قبل حلول ساعة الرحيل.. ذرفت أنهارا من الدموع، ولما وصل القطار نهضت متثاقلة معي حقيبة السفر.. قطة عشقت من أجلي حبات المطر.. وحزنا أخرس أسميه القدر..! الطالبة فائزة كتاني (كلية الاداب والعلوم الانسانية بصفاقس)