قذفت المطابع للسوق، في شهر سبتمبر الماضي، كتابا من اهم ما صدر في تونس منذ انبلاج عهد التغيير من حيث موضوعه وأسلوب كتابته ووفرة وثائقه ونبرته الموضوعية ومرجعية مؤلفه... وهو كتاب يجمع الشارد والوارد في مجال تاريخ حركة التحرير الوطنية بين سنتي 1934 و9531. ولئن كان محوره شخصية الشهيد الهادي شاكر، فإنه جاء شارحا ومفصلا للمعارك السياسية والعسكرية التي خاضتها تونس في تلك الفترة، مع استعراض الوجوه الوطنية والحزبية البازة المشرفة والموجهة لتلك المعارك وعلاقاتها ببعضها البعض والارهاصات الاستعمارية التي تعرضت لها من سجون وابعاد ومناف واغراقات وتهديدات. والكتاب هو مذكرات عبد المجيد شاكر الذي تعتبر معلوماته وتجاربه في تاريخ الحركة الوطنية من أثرى التجارب واكثرها رسوخا، على اعتبار انه ادار الحزب الحر الدستوري التونسي الجديد طيلة ثماني سنوات كانت فيها سفينة الحزب وسفينة الصراع مع الاستعمار الفرنسي تمخران أعتى امواج الاضطراب الداخلي والتشتت المذهبي. عنونَ المؤلف كتاب مذكراته ب «الهادي شاكر، جهاد واستشهاد، وقص علينا مجريات حياة شقيقه الاكبر «سي الهادي» ضمن ستة ابواب محكمة الربط والتسلسل منذ ولادته وحتى استشهاده، مرورا بمختلف الاحداث التي عاشها في أسرته وعمله في التجارة ومصارعته للاستعمار ضمن نشاط الحزب ونضال القاعدة الشعبية وانتخابه عضوا بالديوان السياسي وسجنه ونفيه وامراضه. وانك حين تنهي قراءة هذا الكتاب تشعر بأنك وضعت يدك على مجموعة من الحقائق والقناعات، ومنها على وجه الخصوص. 1 ان المؤلف لئن لم يغص بنا في اعماق العوامل السيكولوجية التي استطاعت ان تقتلع الهادي شاكر من حياته الامنة وتثوّر طبعه الوديع وترمي به في اتون معركة غير مأمونة العواقب، فإنه حين حدثنا عن ايمان الشهيد بدينه وتعلقه بآداء شعائره التعبدية وتمسكه بقراءة القرآن، قد وضع امامنا صورة حية لمسلم سكنه المعنى القرآني في قوله تعالى: «ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا». وهكذا يبدو لنا في اغلب الظن ان المغفور له كان يشعر في قرارة نفسه بأن تونس جزء من أرض الاسلام، وأن اسلامها سيبقى منقوص المحتوى خاوي المفهوم اذا لم يتجند اهلها لمحاربة الكفار الذين استوطنوها غصبا وأذلوا أهلها واستغلوا خيراتها واستباحوا مقدساتها... 2 لا نستطيع اغفال حقيقتين في غاية الوضوح، وتتطلب منا الاعراب عن مشاعر الاكبار للمؤلف، من باب الاعتراف بالحق لذويه، وهما: أ أننا لم نلمس في حديث المؤلف عن شقيقه الأكبر أي نوع من التحيز له أو المبالغة والتهويل في سرد قصته. فكأننا نقرأ لكاتب لا تربطه بموضوعه أية صلات ذاتية أو مشاعر عائلية الا ما كان منها عابرا نحو تثبيت حدث ذي بعد سياسي. ب) إن سرد المؤلف لقصة اغتيال شقيقه لم تتضمن تعليقات أو احكاما شخصية، بل اقتصر على ايرادها كما جاءت على لسان أطراف أجنبية عن العائلة وعلى ما أصدرته المحكمة من أحكام على الجناة من مخططين ومشاركين ومنفذين. وكان التعليق الوحيد للمؤلف بالتعبير التالي تحت عنوان: «...وعدالة الله»: «وهكذا انتهت محاكمة القتلة. وبهذه الأحكام قالت العدالة البشرية كلمتها. والمجتمع التونسي المتجذر في اسلامه يدرك جيدا أن لعنة الله ستبقى على الدوام تلاحق أولئك الخونة المجرمين الذين خرجوا عن حظيرة الاسلام. وذلك مصداقا لقوله تعالى: ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدّ له عذابا عظيما (ص 316) أي أن تعليق المؤلف لم يتمحور حول الجراح التي تركها الاغتيال في أحشاء العائلة، بل حول خيانة الوطن في شخص أحد زعمائه، ومن ثم عصيان الرسالة السماوية. وهنا نلمس ادراك المؤلف لحقيقة ان اغتيال الهادي شاكر لم يكن يستهدف حرمان اسرته من عائلها الوحيد، فربما حصل ذلك عرضا، بل كان يرمي الى حرمان الحركة الوطنية من عنفوان ايمان الفقيد بقضية بلده وصلابة عوده في التصادم مع المستعمرين. 3 أجاد المؤلف، والحق يقال، في الحديث عن نضال أهالي مدينة صفاقس ضد غزو مدينتهم سنة 1881، ثم في تمركز حركات المقاومة على اختلاف أنواعها في المدينة العتيقة، وأخيرا في التخطيط للعمل الفدائي، وكيف سطع نجم الهادي شاكر فجأة ولفت الأنظار اليه : أنظار الدستوريين وأنظار السلطة الاستعمارية الى أن بوأه نضاله عضوية الديوان السياسي، فلم يعد عندئد مناضلا جهوية بل زعيما وطنيا انطلق كفاحه من مسقط رأسه، ولكنه لم يتوقف أو ينحصر هناك، بل تجاوزه الى استقطاب ثقة «الأمة التونسية» كاملة في شخصه، وبقي منذ استشهاده حيا في ذاكرتنا وفي ذاكرة التاريخ. وقد قال أحد شعرائنا في الذكرى الخمسين لاستشهاده : خمسون عاما على استشهادك الوطني.... لم تقتنص قبسا من ذكرك الحسن في سيرها تونس الخضراء ما فتئت... ترعى عهودك بالأوفى من المنن. وتخصيص المؤلف حيزا وافرا من كتابه لكفاح صفاقس بوصفها أحد مهود الحركة الوطنية لا نرى فيه أي توجه جهوي (كما لاحظنا ذلك في بعض ما نشر مؤخرا) بل كثيرا ما أثلج صدورنا. وكم نتمنى أن ينسج كتاب آخرون على منواله فيفيدوننا بنوعية اسهامات مدنهم في الكفاح من أجل الاستقلال قبل أن يطوي النسيان أو الغياب مآثرهم وتحرم تونس من تصويبات ضرورية لتاريخها. والويل من غضب التاريخ. 4 والمؤلف، بوصفه حزبيا ملتزما منذ طفولته بالعمل الوطني التحرري منه في العهد الاستعماري، والبنّاء في عهد انتصاب الدولة التونسية المستقلة، كما يستفاد ذلك من كتابه، أراد أن يرسخ في أذهاننا أهمية العمل الذي انجزه وينجزه الحزب الحر الدستوري التونسي الجديد (التجمع الدستوري الديمقراطي حاليا) في بناء لحمة الشعب الشعب الذي عاش قرونا طويلة في غياهب التخلف، ضمن المجموعة العربية والإسلامية، والذي استعمرته فرنسا وهو في أعسر حالات الضعف والوهن وأثقل أوضاع الفقر والجهل والمديونية، تتنازعه القبائل والعروش، وتفصم أجزاءه بعضها عن بعض النزعات الجهوية والانتماءات العرقية، ولا يجمع بينهم إلا انتسابهم الموروث والعرضي الى هذه الأرض التونسية... وفي هذه الحال لا يمكن لأية دولة محترمة أن تقوم على أرض الواقع قبل أن يسبقها عمل طويل النفس يستهدف جمع هذا الشتات بعد القضاء على عوامل الاختلاف والفرقة واسكات صوت التعصب بجميع ألوانه... تلك هي المهمة التي اضطلع بها الحزب منذ قيامه في الثلاثينات والى الآن وحتى في المستقبل، ضمانا لدولة لا توحدها الأرض فقط بل أيضا النفوس المنصهرة في بوتقة واحدة، والضمير الجماعي المتوثب، وبرامج التقدم والرقي لشعب يطمح إلى اكتساب القدرة على نحت مستقبله ليصبح جديرا بالتعايش والتعامل والتفاعل مع الثورات العلمية المتلاحقة. ونحن لا نبالغ أو نستجدي رضى أي مسؤول إذا أثنينا على رغبة المؤلف في رفع أهمية العمل الحزبي إلى سطح الوعي، لا من أجل الاشادة الكاذبة أو التملق الخادع بل من أجل اصلاح الأخطاء والتحريفات التي وقع فيها عن قصد أو عن غير قصد بعض الكتاب والسياسيين العرب والمغاربيين في تناولهم لعلاقات القيادة التونسية في العقود الأولى من الاستقلال مع جيراننا وأشقائنا العرب... وإذا كان الحزب قد التهم القدرات الفكرية والعملية لنخبة المثقفين التونسيين في بدء نضاله وأثناء ترسيخ مقومات الدولة، فإن بامكانه الآن ان يستمر مرفوعا على سواعد الأجيال الموالية من أجل اتاحة الفرصة للنخبة الأولى قبل فوات الأوان لتصويب تاريخ بلدنا... وتلك رسالة لا تقل أهمية عن بناء الدولة وتوفير مقومات المناعة لها. وختاما أود أن أتفاءل خيرا لمذكرات عبد المجيد شاكر، إذ أنها تصدر في سنتنا هذه 2003 والتي أسميناها سنة الكتاب. وحبذا لو ينتبه المؤلف وشركة التوزيع إلى المعرض المقبل للكتاب فيخصص لهذه المذكرات ركنا يجلب الزائرين بغلافها الأنيق فتكون لها ولهم فرصة ربط علاقات ودّ مباشرة تنتهي باحتضانهم للكتاب، إذ لا غنى لهم كبارا وصغارا عن مطالعته والاستفادة من خبرة مؤلفه.