مكتب المجلس الوطني للجهات والأقاليم يقرر افتتاح الدورة النيابية 2025 2026 بعقد جلسة عامة حوارية    ماكرون: ترامب لن ينال جائزة نوبل للسلام إلا بإنهاء الحرب في غزة    انطلاق نشاط وحدة بنك الدم بالمستشفى الجامعي بسيدي بوزيد    البنك المركزي يطرح ورقة نقدية جديدة للتداول من فئة خمسين دينارا (صورة)    بطولة العالم لألعاب القوى - عدد قياسي للدول الفائزة بميداليات في النسخة العشرين    عاجل/ تفكيك شبكة خطيرة لترويج الكوكايين بهذه الجهة من العاصمة    مسرح الأوبرا يعلن عن فتح باب التسجيل في ورشات الفنون للموسم الثقافي الجديد    تظاهرة "الخروج إلى المسرح" في دورتها السادسة تحمل اسم الراحل الفاضل الجزيري    كاس العالم لكرة السلة... قطر 2027 : تونس تحتضن تصفيات النافذة الاولى    على متنها 3000 سائح...سفينة كوستا كروازيار ترسو بميناء حلق الوادي    عاجل/ تعليق الدروس في هذه الولاية..    عاجل : هذا هو موعد شهر رمضان 2026 فلكيا    ماتنساوش: مباراة إياب دوري أبطال إفريقيا بين الاتحاد المنستيري والأسود السيراليوني في هذا التاريخ    عاجل – الباراسيتامول مضر للحوامل و يسبب التوحد؟: وكالة الأدوية الأوروبية توضح    في بالك ... فما اختبار دم يقيس قداش كل عضو في بدنك تقدم في العمر؟    رغم الغياب عن البطولة: الترجي الرياضي يحافظ على الصدارة.. النجم الساحلي في المركز الثالث والنادي الإفريقي في المركز ال6    مدنين: 90 الف طن تقديرات صابة الزيتون الاولية لهذا الموسم    أوت 2025: شهر قريب من المعدلات العادية على مستوى درجات الحرارة    الحضانة المشتركة من اجل تعزيز المصلحة الفضلى للأبناء بعد الطلاق    بالفيديو.. ماكرون "علق" بشوارع نيويورك فاتصل بترامب.. لماذا؟    عاجل - يهم التونسيين : شوف اخر مستجدات الطقس ...برشا مطر    عاجل/ "كوكا، زطلة وأقراص مخدرة": أرقام مفزعة عن حجم المخدرات المحجوزة في تونس..    عاجل: ظهور سريع للسحب الرعدية يفرض الحذر في كل مكان!    تولي مواطن قيادة حافلة: شركة النقل بين المدن توضّح.    قبلي: انطلاق دورات تكوينية في الابتكار في النسيج والصباغة الطبيعية لفائدة حرفيات الشركة الاهلية "رائدات"    جندوبة: المطالبة بصيانة شبكة مياه الري لتامين حاجيات القطيع والاعداد للموسم الجديد    يا توانسة.. هلّ هلال ربيع الثاني 1447، شوفوا معانا دعاء الخير والبركة الى تدعيوا بيه    "DONGFENG" تمر للسرعة القصوى في تونس…! "DONGFENG" تُقدّم مجموعتها الجديدة من السيارات التي تشتغل بالطاقة المتجددة    الترجي الرياضي: اصابة عضلية لنجم الفريق    اللاعب التونسي مراد الهذلي يجدد التجربة مع أهلي طرابلس الليبي    مواطن يقوم بقيادة حافلة..وشركة النقل بين المدن توضّح وتكشف.. #خبر_عاجل    إصدار طابع بريدي إحياء للذكرى 80 لتأسيس منظمة الأمم المتّحدة    الحماية المدنية :594 تدخلا خلال الأربع والعشرين ساعة الماضية    بطولة العالم للكرة الطائرة : المنتخب الوطني ينهزم امام نظيره التشيكي    النفطي بمناسبة ذكرى مؤتمر بيجين حول المرأة : تونس تولي اهتماما خاصّا بريادة الأعمال النّسائية    عاجل/ لأوّل مرّة: مسؤول أميركي يعترف ب"هجوم إسرائيلي على تونس"..    الشيبس كل يوم.. تعرف شنوّة اللي يصير لبدنك    محرز الغنوشي يُحذّر من تواصل الأمطار هذه الليلة    وزير الاقتصاد يتباحث مع المدير الإقليمي للمنطقة المغاربية بمؤسسة التمويل الدولية، سبل تعزيز التعاون.    عاجل/ انفجار قرب سفينة قبالة اليمن..    وزارة الصحة تطلق أول عيادة رقمية في طب الأعصاب بالمستشفى المحلي بالشبيكة بولاية القيروان    أمطار قياسية في مناطق من تونس.. الأرقام كبيرة    إسبانيا تهدد بالرد على أي عمل إسرائيلي ضد أسطول الحرية    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    أهم كميات الأمطار ال 24 ساعة الفارطة    رئاسة مؤتمر حل الدولتين: إنهاء الحرب في غزة أولوية قصوى    مسيّرات مجهولة تغلق مطارين في الدانمارك والنرويج    رئيس الجمهورية يدعو إلى تأمين محيط المعاهد ومقاومة تجّار المخدرات    نجاة من كارثة محققة في مطار نيس: طائرتان تفلتان من اصطدام مروع    زاده الشيب جمالاً... تيم حسن يلفت الأنظار بوسامته    الإعلامي محمد الكيلاني في أمسية أدبيّة بسوسة...غادرت التلفزة واتجهت إلى الكتابة لغياب التحفيز والإنتاج    المدرسة الابتدائية الشابية بتوزر .. «نقص فادح في العملة»    زياد غرسة يضيء سهرة افتتاح مهرجان المالوف الدولي بقسنطينة    مشاركة تونسية مكثفة في مهرجان بوسان الدولي للفن البيئي    المفتي هشام بن محمود يعلن الرزنامة الدينية للشهر الجديد    السينما التونسية تتألّق في مهرجان بغداد السينمائي... التتويج    غدا الأحد: هذه المناطق من العالم على موعد مع كسوف جزئي للشمس    استراحة «الويكاند»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



النظام الدولي: العراق النقد المستمر...
نشر في الشروق يوم 18 - 06 - 2005


ماجستير تاريخ وسيط وحديث
أستاذ أوّل رجيش تونس
طرحت ازمة الخليج الاولى والثانية تساؤلات عديدة ذات علاقة بخلفية هذه الأزمة لازالت أجوبتها معلقة هل هي موارد الطاقة أم أمن الكيان الصهيوني ام النموذج التنموي في العراق؟ كما كشفت عن أزمات اخرى متعددة ومتداخلة ولكنها ترتبط بالسلم العالمية... كأزمة الشرعية الدولية والأمم المتحدة وأزمة النظام السياسي الدولي، هل هو نظام للأمن الجماعي كما تحاول الولايات المتحدة تصويره أم نظام توازن للقوى لابد من ان يكون لدول العالم الثالث دورا في صياغته كما يطرح العراق خاصة بعد التراجعات الجوهرية التي عرفتها دول الكتلة الاشتراكية سابقا وما صاحب ذلك من اختلال في العلاقات الدولية؟ فما هي سياسة توازن القوى الكلاسيكية؟ وهل مثلت الأمم المتحدة نظاما للأمن الجماعي ام نظاما لتوازن القوى الكلاسيكية؟ وما هي اشكال النقد الموجهة للنظام السياسي الدولي وكيف تم التعامل معها؟
I سياسة توازن القوى الكلاسيكية:
على سؤال: «ماذا نعني بمجتمع الامم Société des Nations يجيب المؤرخ جاك باينغيل «... هو التوازن المنخرم مكان التوازن الحقيقي»() في حين يذهب ولسن صاحب فكرة جمعية الامم الى عكس ذلك من خلال اعتقاده بأن سياسة التوازن سياسة عقيمة بل ابعد من ذلك يحملها مسؤولية اندلاع الحرب العالمية الاولى ويحذو «روزفلت» حذوه عندما يؤكد وبعد عودته من مؤتمر يالطا 1945 فشل سياسة التوازن طيلة قرن كامل داعيا الى تعويضها بهيئة الأمم المتحدة ضمن مفهوم للأمن الجماعي. عمليا ومنذ سنة 1919 لم تتمكن العلاقات الدولية من العمل ضمن هذا المفهوم وبقيت مقيّدة الى قوانين ومبادئ سياسة توازن القوى الكلاسيكية واليوم يستطيع المرء التأكيد على أن هناك اعادة اعتبار الى هذه المبادئ بالتوازي مع اعادة صياغة للمفاهيم والعناصر المعبّرة والمرتكزة اليها سواءا ميدانيا او سوقيا* وهو ما تنبه اليه الاستاذ صدّام حسين منذ 1975 في مداخلة هامة تحمل عنوان «نضالنا والسياسة الدولية»(2) فما هي تجليات هذه النظرية؟
يقول «فريدريك قانتر»... ما يطلق عليه الانسان عادة سياسة توازن القوى هو مجموعة القوانين (الشرعية السيادة...) القائمة الى جانب القلة او الكثرة من الدول المتعاقدة او المتحالفة بين بعضها البعض والتي لا يحاول اي منها إلحاق ضرر باستقلال او مصالح الاخرين دون ان يلحق خطرا بتلك القوانين وبنفسه كذلك او يؤدي فعله او افعالها الدول الى اثارة ردود افعال من اي طرف كان...»(3) مبادئ تجد تفسيرها في احداث القرن التاسع عشر من خلال ثلاث مظاهر: انكسار الدولة العثمانية والامبراطورية النمساوية المجريّة والظاهرة الامبريالية.
فالمسألة الشرقية تتوضح في جانبها العالمي من خلال الصراعات المتكررة بين الامبراطورية العثمانية والقوى الاوروبية وما احدثته هذه الصراعات من تقابل في السياسات الدولية آنذاك(4). وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر ظهرت المسألة النمساوية بعد اهتزاز قوّة هذه الامبراطورية اثر حروب 1859 و1866 اذا كانت النمسا وحتى ذلك التاريخ تملأ بقوّتها منطقة وسط اوروبا من خلال قيادة وتنظم الدويلات الالمانية والايطالية وبذلك تعدّل ميزان القوى بين الدول الكبرى إلا أنه وكنتيجة لتراجع القوّة النمساوية والروسية إثر حرب القرم عرفت اوروبا والعالم وضعية عدم توازن تمكنت الحركات التوحيدية الالمانية والايطالية من توظيفها خالقة بذلك توترات عالمية جديدة وقع تقنينها الى حد ما من خلال الظاهرة الامبريالية المتمثلة في اندفاع اوروبا والولايات المتحدة واليابان نحو الاستعمار اي سدّ الفراغات السياسية والاقتصادية في منطقة ما وراء البحار باستخدام القوّة محدثة توترات جديدة على المستوى العالمي غطت التوترات القديمة... ولكنها ومع بعضها شكلت العوامل الاساسية لاندلاع الحرب العالمية الاولى(5). وتحت طائلة هذه المبادئ السياسية العامة في العلاقات الدولية عرف التاريخ الاوروبي ومن خلاله التاريخ الحديث للعالم اربع محطات رئيسية بكلام اخر عرف توازن القوى الدولية أربع فترات فمن سنة 1492 الى 1648 1659 فترة صراع ضد التفوق الاسباني ومن سنة 1648 الى 1815 فترة صراع ضد التفوق الفرنسي في حين تميّزت الفترة الممتدّة بين 1815 الى 1890 1914 بفترة توازن القوى (ثنائية الاستقطاب الفرنسي الانقليزي) أما فترة 1919 الى 1945 فهي مرحلة قطع الطريق امام التفوق الالماني. فما هي المبادئ التي انبنت عليها العلاقات الدولية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية وهل عبّرت عن الامن الجماعي ام توازن قوى كلاسيكي؟
II الأمم المتحدة: نظام للأمن الجماعي ام نظام لتوازن القوى الكلاسيكي:
في ظل غياب القوى الكلاسيكية ومباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، ظهرت توترات سياسية ناجمة عن الفراغات التي تشكلها غياب هذه القوى على المسرح الدولي او تراجعها «فرنسا، انقلترا، اليابان، وسط اوروبا» لذلك عرف العالم ظاهرة انجذاب القوى غير المتوازنة التي تعني انكسار او تراجع قوّة أو مجموعة قوى يؤدي الى ظهور فراغات سياسية تؤثر على القوى المجاورة او المتأثرة بتلك القوّة او مجموعة القوى المتراجعة او المنكسرة مما يجعلها تبحث عن اعادة الاعتبار لنفسها من خلال مظلة اوسع لحمايتها. وكانت الأمم المتحدة مهيأة نظريا من خلال ميثاقها وهيئاتها الا ان الدول فضلت طوعا او كراهية ما هو عملي وما يعبر عن مصالحها وهي السياسة التي قادت الى ظهور الكتلتين منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وبالتالي اصبحت الامم المتحدة هيئة لتشريع مبادئ التوازن الكلاسيكي عوضا عن هيئة للأمن الجماعي ضمن منطق مغاير وبالاعتماد على مبادئ جديدة غير تلك التي عرفتها العلاقات الدولية في فترة ما قبل الحرب إذا اضحت الشرعية والسيادة في القانون الدولي مبادئ خاضعة للمصالح تتغير بتغيرها(6). فالكتلة الشرقية (سابقا) تدافع عن امتدادها من خلال الكلام عن حق الشعوب في امتلاك ارادتها وتنظر للدور المهم والمتميز للعوامل الاجتماعية في السياسة الدولية وتسفه نظرية توازن القوى وتعتبرها أداة نظرية للرأسمالية داعية «للأمن الجماعي» في حين نرى السياسة السوفياتية ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية قد استوعبت ووظفت نظرية توازن القوى الكلاسيكية ففي سنة 1960 يطالب خروتشوف للموافقة على تحسين العلاقات وعلى توازن القوّة بين الكتلتين الشرقية والغربية المراقبة الدقيقة والمتكررة للتطور العسكري والاقتصادي والبشري وعناصر اخرى مادية ومعنوية.
أما بريجنيف فهو يدعو ا لى اتخاذ مبدأ الاحصاء الداخلي للقوة المتوازنة وسحب المراقبة عليها كما يدعو الى وضعية تتحدد داخلها استقلالية الدول الصغرى وهي حالة لم تكن مطلوبة حتى في القرن التاسع عشر(7) ولم يتوان في التعبير عن هذه السياسة عن استخدام القوة حتى خارج الحلف(8).
وإذا كانت السياسة السوفياتية (سابقا) تعرف تناقضا بين الفكرة والممارسة فالسياسة الامريكية كانت واضحة وطموحة في تدعيم نظرية توازن القوى الكلاسيكية بدلا عن سياسة الامن الجماعي فهي تنطلق منذ الستينات من أنه يمكن مكان النظام العالمي القائم على قطبين احلال نظام عالمي اكثر ديناميكية يقوم على تعدد الاقطاب وهي السياسة التي طوّرها ونظر لها استاذ العلوم السياسية في جامعة هارفورد وزير الخارجية الامريكية سابقا هنري كسنجر المتأثر الى حد بعيد بديبلوماسية المؤتمرات لكل من Metternichs وCastlereaghts والتي وصفها بنوع من الاستحسان في كتابه «ديبلوماسية الدول العظمى»(9) فهو يحاول استخلاص العديد من عناصر نظرية توازن القوى الكلاسيكية ليجعلها صالحة لنظام التوازن الدولي القائم مؤكدا على أن هذا النظام يحتوي على حد أدنى من الضمانة بالنسبة للسلم العالمي كنتيجة لتوازن الرعب بين القطبين ولكنه لا يضمن اي حركية للسياسة الامريكية لتحقيق التفوّق. وبالعقلية التجارية (الرأسمالية). نظريا لا وجود لعدو او لصديق دائم وانما مصلحة دائمة و عمليا عدو عدوي صديقي وعدوي يمكن ان يكفله صديقي(10). ومن خلال السياسة الواقعية لريتشارد نيكسون وسع نظام القوّتين ليفسح المجال امام الصين كقوّة ثالثة ليست ثابتة وانما كقوّة ثالثة قابلة للنقاش خالقا بذلك نوعا من الأخذ والرفض داخل القوى الكبرى ليصل بها الى وضع تكون ردود افعالها مرنة بحيث لا تتمكن من مراقبة انتقال السياسة الامريكية من هدف الى آخر(11) وهو ما يسمى «استراتيجية الجواب المرن» إن نظام التوازن العالمي وحسب هذه الاستراتيجية يمكن توسيعه حسب كيسنجر ليصبح نظاما دوليا رباعيا من خلال اوروبا الموحدة بالتعاون مع اليابان وبقية دول العالم يمكن خلق نظام امن جماعي بين الدول الصغيرة الفقيرة من ناحية ومن ناحية اخرى الدول الغنية الكبرى وهكذا وكما هو الامر في فترة التوازن الكلاسيكي يمكن خلق حالات من التوازن الاقليمي، وهو ما تسعى السياسة الامريكية الى تحقيقه كالتوازن الاوروبي (نزع السلاح، الوحدة الالمانية، تفكيك حلف وارسو). والتوازن في المحيط الهادي (الضغط الاقتصادي على اليابان، القبول بتغير النظام في الفليبين، المسألة الكمبودية، المفاوضات بين الكوريتين) والتوازن في الشرق الاوسط (كامب دافيد، الحرب الايرانية العراقية وأخيرا أزمة الخليج؟) هكذا تصوّر امريكا آثار عديد الانتقادات فما هي مظاهرها؟
III نقد النظام السياسي الدولي:
ان النظام السياسي الذي حكم العلاقات الدولية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية قد أثار العديد من الانتقادات تدرجت من الانتقادات المرنة لتأخذ شكلها الحاد في أزمة الخليج الأولى والثانية فما هي هذه الانتقادات؟ وما هي خلفياتها؟
أول المنتقدين كانوا من الساسة والمؤرخين الأمريكيين مثال أورغنسكي، زوز كرنس وشرودا. (12) الذين يعارضون سياسة التوازن المبنية على توازن القوى ويؤكدون فشلها كما فشلت سياسة توازن القوى في القرن التاسع عشر التي قدمت سلما ممسوخا انتهى بحرب مدمرة كما ان هذه السياسة لم تقدم أي حل حياتي للدول والشعوب الصغيرة كما هو الأمر بالنسبة لبولونيا في القرن التاسع عشر وهي الآن تؤدي إلى العديد من الحروب بالنيابة أو الحروب الاستباقية الوقائية وبذلك فهي تفتح الباب واسعا لسباق التسلح بالرغم من ان هذه السياسة إذا أخذت كمبادئ وطبقت ميكانيكيا تبقى عاجزة عن وضع حد تتوازن عنده القوى من الناحية الجغرافية والاقتصادية والبشرية والعسكرية زيادة على ذلك كله فإن هذه السياسة حركت المسألة الاجتماعية ليس فقط على المستوى الوطني أو القومي بل دفعتها لتصبح مسألة عالمية** أضحت حلولها الكيفية صعبة للغاية دون اختلال هذا النظام وبشكل عام فهذه السياسة تركت الباب مفتوحا أمام مشاكل الحرب والسلم.
الانتقاد الثاني مثلته السياسة الخارجية لفرنسا التي لازالت نقدا محتشما انطلاقا من الانسحاب الفرنسي من هيئة الأطلسي، ديغول وسياسته الشرق أوسطية وصولا إلى الموقف الفرنسي الأخير الداعي إلى عدم تجزئة الشرعية الدولية.
إن هذا النقد بالرغم من صحته من الناحية التاريخية ودوافعه الآنية التي يوضحها التخوف من انتقال المسألة الاجتماعية من إطارها القومي إلى الإطار العالمي أي بشكل آخر كيفية مواجهة الحركات والتوجهات الاستقلالية سياسيا واقتصاديا الكامنة في بلدان العالم النامي. فهي كانتقادات لم تقدم أي شكل تنظيمي للمرحلة الراهنة ولا طرحت حلولا يمكن الاستفادة منها مستقبليا.
الانتقادات البناءة وذات الأفق المستقبلي كانت من قبل مجموعة عدم الانحياز التي دعت ومنذ تأسيسها إلى إعادة النظر في النظام السياسي وإلى إعادة توزيع الثروات في العالم وخاصة مسألة التكنولوجيا وانهاء سياسة السيطرة والتحكم والتدخل في الشؤون الداخلية: وقد لعب العراق بقيادته خلال الثمانينات والتسعينات (رغم ظروف الحصار) دورا متميزا فيها خاصة في مؤتمر «هافانا» جعله محل ثقة دول هذه المجموعة ليحتضن مؤتمرها السابع (الذي عقد لاحقا في الهند نتيجة ظروف الحرب الايرانية آنذاك) والعراق من حيث المبدأ لا يرفض سياسة توازن القوى ولا يرفض مبدأ توسيع نظام القوى الدولية ولكنه يرفض استثناء الأمة العربية والعالم الثالث من أن تكون أو يكون ممثلا في هذا النظام ويرفضه بالشروط الأمريكية. (13) لذلك كانت ردود الفعل الأمريكية ضد سياسة العراق ومنهجه الاستقلالي عدائية. عدائية تمثلها عدة محطات أهمها: 1) المسألة الكردية وسياسة الشاه العدائية ولا ننسى هنا عمالة الملا مصطفى البرزاني والد مسعود البرزاني للإدارة الأمريكية. 2) الحرب الايرانية العراقية ومسألة تزويد ايران بالسلاح (ايران غيت/كونترا). 3) مسألة نقل التكنولوجيا وأزمة المكثفات. 4) أسعار النفط ودور بعض دول منظمة الأوبيك خاصة العرب (الامارات الكويت) في ذلك الأمر الذي يعني إعلان حرب. (14) فكان النقد العراقي لهذه التجاوزات الأمريكية أول تهديد مباشر لاستراتيجية الجواب المرن الأمريكية ممثلة في أزمة الخليج من بدايتها وحتى الآن وما يمكن أن تفرزه في صفحتها الجديدة التي تمثلها المقاومة البطولية للاحتلال والتي هي في حاجة لاعتراف سياسي رسمي سيكون حتما الضربة النهائية لاستراتيجية الجواب المرن الأمريكية خاصة وان الفعل العراقي من القوة بحيث باتت فيه السياسة الأمريكية مكشوفة وفي مأزق أمام أصدقائها قبل أعدائها ودليلنا على ذلك تذبذب الأهداف التي جعلت الأمريكيين ينتقلون وبهذه الكثافة إلى الخليج فهي مرة من أجل حماية السعودية ومرة من أجل حماية مصالحها ومصالح العالم المتحضر (أزمة الخليج الأولى) ومرة من أجل القيم الحضارية ومن أجل السلم العالمي (الأمريكي) من رجل اسمه صدام حسين وليس آخر من أن الرد العراقي (على السياسة الأمريكية) يهدد النظام السياسي العالمي الجديد الذي هو قيد التشكل طارحين انخراط المنطقة في مشروع أمن اقليمي (توازن شرق أوسطي). اذن المسألة ليست مسألة الكويت ولا الخليج وامرائه وملوكه (الأزمة الأولى) ولا أسلحة الدمار الشامل التي لم يجدوها ولن يجدوها ولا الارهاب (الذي ابتدعته أمريكا نفسها) وإنما مسألة النموذج العراقي المستقل في قراراته واتجاهات التنمية*** التي اتبعها هل يقبل مشروع الأمن الاقليمي أي الانخراط في السياسة الأمريكية وما يترتب عن ذلك من تنازلات إذا لا فلابدّ من جعله قابلا للمشروع (سياسة الابتزاز التي مورست على العراق خلال سنوات الحصار)**** أو ساكتا عنه وحتى يسكت لابدّ من تجريده من عناصر قوته (أزمة الخليج الثانية) أي اسقاط السلطة الشرعية وتنصيب سلطة عميلة أطرافها ظاهريا «معارضة عراقية» وعمليا تجمع لأطراف وسياسات متداخلة ومتضاربة لا تجمعها إلا العمالة لأمريكا وكرهها للوطن قيادات لأناس احترفوا التهريب واعتمدوه كمصدر للثروة نشاط يزدهر عندما يغيب نفوذ السلطة المركزية في العراق ممثلين في القيادات الكردية إلى أناس موظفة في مكاتب وزارة الخارجية الايرانية (اعتماد الوضع في العراق للمساومة في النقاش الدائر حول الملف الايراني) إلى بعض بقايا الحالمين بإمكانية ظهور نسخة للثورة البلشفية بتوقيع من «الحاكم المدني للعراق» إلى جانب التأسيس لضرب مقومات الوحدة الوطنية لدولة لم تعرف في تاريخها الحديث سلطة اشراف ذات تركيبة عرقية أو طائفية وذلك بالعمل على زرع جذور الفتنة الطائفية والعرقية سياسيا واجتماعيا كما توضحه تركيبة السلطة العملية (ما يسمى بمجلس الحكم الانتقالي) والنقاش القانوني الدائر حول كيفية انتقال السلطة (شكل ديمقراطي مسخ قادم على ظهر دبابة) وبذلك تقدم أمريكا أسوء وأرذل مثال لما يمكن أن تكون عليه الديمقراطية والمعارضة في العالم النامي... أمر يمثل جزءا من سياسة التهديد والترغيب التي تمارسها أمريكا وتشجع الأطراف الدولية الأخرى على أتباعها وتحت هكذا سياسة بتراكم وتتوسع دائرة الدمار والتجويع والقتل ونهب مدخرات الشعب العراقي بمختلف فئاته ومكوناته أمام أنظار العرب الذين تناسوا أن العراق عمقهم السوقي (الاستراتيجي) بشريا وماديا ومعنويا. ويبقى مجتمع الأمم «المتحضرة» يقدم المساندة للسياسة الأمريكية وينتظر مجتمع الأمم «المتخلفة» مندهشا نهاية السياق وكأن العراق لا يمثل امتدادها أو أحد أعضائها الفاعلين.. فإلى متى السكوت عن الاحتلال وارهاب الدولة الذي أصبحت الولايات المتحدة تشرّع له وتختبر نجاعته في الساحة العربية؟
1) Bainville, Jaques, les conséquences politiques de la paix, Paris 1940 P 59
2) صدام حسين المختارات الجزء الخامس، الموضوعات السياسية بغداد 1988 ص 13
3) Gentz, Friedrich, staatsschniften und Brief Auswanil in Zwei Bunden, Hrsg Dou Hans Von EeKHard bd, Munchen 1921 S 117
4) Mansour, Mohamed Sadok, Bismarck Aussen - politik und die agyptische, Frage, Frankfrut / M1984 Magister Dis
5) Baumgart, Winfried, Von Eurpaischen Konzert, Zum Volkerbund, Darmstat 1974, S, 145
6) انظر خطاب زين العابدين بن علي 11 أوت 1990 منشور الصحف التونسية 12 08 1990
7) راجع ما كتب حول مفاوضات نزع السلاح ورفض فرنسا وبريطانيا احتساب قوتها النووية ونزع الصواريخ المتوسطة المدى كذلك انظر اتفاقيات نزع السلاح سالت 1 وسالت 2
8) التدخل السوفياتي في أفغانستان (خارج الحلف) التدخل في تشيكوسلوفاكيا.
9) انظر Kissigner, Henry, Grossmacht Diplomatic Dusseldorf, Wien 1975
10) المقصود هنا استغلال الصراع الصيني السوفياتي واستغلال تحسين العلاقة مع الصين لفك علاقاتها مع حركات التحرر في العالم
11) الحرب الفيتنامية، التدخل في الشيلي وفي الشرق الأوسط وقلب حكومة المستشار سميث في ألمانيا من خلال فك التحالف بين الحزب الديمقراطي الاشتراكي والحزب الليبرالي، التدخل في غرينادا وبنما، وأخيرا التدخل في الخليج
12) قارن Schroeder, Paul W/ Austria, Great Britain und the Crimean War. The Destruction of the European Cuncert. Iheca / London 1972
Organski, A.F.K. world Politics, New York 1968 / Rosecrance, Richard, Action and Reaction in world Politics International systems in Perspective Boston / Toronto 1993
13) صدام حسين: نفس المصدر: الدفاع عن السيادة والسياسة الدولية (1975) ص 75 90
14) صدام حسين سفيرة الولايات المتحدة الأمريكية بغداد 25 07 1990 وثيقة المحادثات الرسمية، منشورة بالجرائد التونسية 26 07 1990
* سوقيا: استراتيجيا: ميدانيا: تكتيكيا.
** حوار الشمال والجنوب، تعدد المؤتمرات والهياكل الفرعية: مجموعة خمسة زائد خمسة لغربي المتوسط: الهجرة غير القانونية الخ.
*** راجع في هذا الصدد مجلة: ملامح العالم الاقتصادية بين 1976 1990 مجلة اقتصادية تقدم مؤشرات اقتصادية واجتماعية تصدر سنويا باريس.
**** أنظر ما نشر اثر زيارة مبعوث الفاتيكان إلى العراق سنة 1993 .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.