لا نكاد نجادل اليوم في أن ليبيا لا تمر بمجرد أزمة يمكن تجاوزها بسهولة بل يتعلق الأمر بمرحلة تاريخية مفصلية ستنعكس على مستقبل ليبيا ومستقبل المغرب العربي برمته فالوضع الليبي ليس حالة منعزلة حتى يقيّم بشكل منفرد وإنما يحتاج إلى قراءة جيو استراتيجية ولذلك يتوجّب منذ البدء توضيح عدد من المسائل التي تترتب كالتالي: أولا: إن الرد على الاحتجاجات الاجتماعية وعلى مطالب الشعب في الحرية والديمقراطية والكرامة لا يمكن أن يكون اعتمادا على السلاح فذلك مرفوض تماما ولا يمكن قبوله لأنه لا يؤدي إلا إلى سفك الدماء وإزهاق الأرواح البشرية وكان الأجدر الاستماع إلى المطالب وتلبيتها بشكل سلمي حضاري وديمقراطي. ثانيا: إن هذه الانتفاضة المسلّحة تعود في جذورها إلى جمود النظام السياسي وإلى إخفاق السياسات العامة وعدم استقرار الإدارة وسوء توزيع الثروات وغياب فرص التعبير ومنابره واستشراء الفساد الاجتماعي في مفاصل الدولة والمجتمع. ولذلك خلقت هذه المعطيات الموضوعية بيئة اجتماعية وسياسية مهيأة للتوتر وخاصة الانفجار في كل لحظة بحكم أن نسب الفقر مرتفعة والثروة غير موزعة بشكل عادل وقنوات المشاركة السياسية شبه مسدودة وهي مسائل كنا نبهنا إليها في كتابينا «السلطة والمجتمع والجمعيات في ليبيا» (تونس 2000) والعسكر والنخب والتحديث في ليبيا (باريس 2009). ثالثا: إذا كان استعمال القوة لمواجهة الاحتجاجات الاجتماعية والسياسية يعد أمرا مرفوضا فإن الاستعانة بالغرب وخاصة الحلف الأطلسي من أجل إحداث التغيير المطلوب هو أمر قابل للنقاش إن لم يكن مرفوضا ويعودنا للإجابة عن سؤالين مركزيين: إلى أي مدى يجوز التغيير السياسي في أي بلد كان اعتمادا على دول عريقة في الاستعمار والامبرالية؟ ما هي الكلفة السياسية الاقتصادية وخاصة المالية المطلوبة مقابل إنهاء النظام القائم وتعود أهمية هذين السؤالين إلى التنافس الكبير والشرس بين فرنساوالولاياتالمتحدةالأمريكية على ليبيا لأهميتها الاستثنائية فليبيا تتوفّر على احتياطي بترولي استثنائي يفوق حسب التقديرات المطلعة 41 مليار برميل نفط إضافة إلى توفر كميات معقولة من الغاز الطبيعي كما تتنافس فرنساوالولاياتالمتحدةالأمريكية على مشروع إعادة إعمار ليبيا الذي يجعل منه مشروع القرن 21 باستحقاق. فالتقديرات الأولية تشير إلى أن إعادة تأهيل البنية التحتية الليبية المدنية منها والعسكرية تتجاوز 150 مليار دولار. ان هذا المبلغ ليس خياليا أخذا في الاعتبار الاهمال الذي أصاب البنية التحتية طيلة عقود أربعة اضافة الى الدمار الذي أضرّ بالقطاعين المدني العسكري. فليبيا مغرية بحكم ثرواتها الطاقية الهائلة التي من المتوقع ان لا تنضب قبل 50 سنة القادمة. كما يتوفر هذا البلد القارة على أهمية جيو استراتيجية. كما لا يفوتنا أن نشير الى أن ساركوزي مهتم جدا بحضور فرنسا في ليبيا اقتصاديا وعسكريا وأمنيا وثقافيا لما تتمتع به ليبيا من أهمية استراتيجية تساعد على التحكم في منطقة المغرب العربي وحتى في المنطقة العربية. الرهانات الاوروبية الامريكية في ليبيا من الواضح ان الادارة الامريكيةوفرنسا تريد ان تجعل من ليبيا مختبرا سياسيا في قادم السنوات يكون مؤثرا في منطقة المغرب العربي وفي مصر أيضا. ويسعى هذا المختبر السياسي الى تحقيق هدفين بارزين. أولا: تقسيم ليبيا الى ما يمكن ان نسميه ليبيا النافعة ممثلة في مناطق النفط وحقوله في الشرق وليبيا غير النافعة ممثلة في الجبل الغربي الذي يعتبر قليل الأهمية الاقتصادية وان كان على غاية من الأهمية الاستراتيجية باعتباره يلاصق تونسوالجزائر في الآن نفسه. ويبدو أن فرنسا التي تتمتع بخبرة طويلة وعريقة في مجال التعامل مع المسألة الامازيغية مهتمة بمشروع قيام «دويلة» امازيغية اباضية في الجبل الغربي (جبل نفوسة) تستغل كأداة للضغط على تونسوالجزائر وابتزازهما بحكم أهمية المكون الامازيغي والاباضي في الجزائر، وربما ساعدت هذه «الدويلة» المنتظرة على تفكيك الجزائر في اطار ما يسمى بالفوضى الخلاقة. ثانيا: تدريب السلفية الجهادية الليبية المسلحة على الوصول الى السلطة بدل اقصائها ومحاربتها كما حصل على امتداد عقود من الزمن. فعلى الرغم من المعارضة الفرنسية، فإن الادارة الامريكية لا تمانع في ذلك بحكم ان المعارضة المسلحة مكونة أساسا من فصائل اسلامية. ولكن شريطة أن تكون سلفية لا ترفض التنسيق مع الولاياتالمتحدةالامريكية ولا تمس بمصالحها الحيوية. وسيسعى هذا المختبر السياسي الى ترويض الحركات الاصوليةشريطة عدم معارضة المشاريع الامريكية ومصالح حلفائها. تحديد المستقبل يتوجب اليوم على جميع الليبيين ان يأخذوا مصيرهم بأيديهم وأن يستحضروا روح القرضابية (1915) وأن يفوتوا الفرصة على سفك الدماء وعلى المتربصين بليبيا وأن يعملوا على ايجاد حل سياسي وطني شامل يجنب ليبيا مزيد التدويل والوقوع في شراك النظام العالمي الجديد. ولذلك نرجو فعلا ان تصل ليبيا الى حل سياسي حضاري ووفاقي يصون الاستقلال والسيادة. فالحاكم يمضي ولكن يبقى الوطن والحاكم يزول والوطن لا يزول. ولهذا من واجب الليبيين جميعا انقاذ وطنهم من المأساة التي يعيشونها. فالتحديات التي تواجهها ليبيا اليوم عديدة، فقد تفككت الوحدة الوطنية الليبية تماما بحكم أن عديد القبائل المهمة في ليبيا حاربت الى جانب نظام معمر القذافي في حين أن عددا يسيرا من القبائل اتخذ موقفا معارضا، الأمر الذي اوجد شرخا عميقا في صلب اللحمة الوطنية وخاصة في البناء القبلي اساس توازن المجتمع. فمن الضروري العمل اليوم على تفادي دخول ليبيا في مرحلة الثأر القبلي الموجود بطبيعته. كما يكون ضروريا العمل على ايجاد مصالحة وطنية تجنب الثأر ومزيد سفك الدماء. كما تقتضي المرحلة الراهنة وضع دستور جديد وبناء منظومة قانونية وتشريعيةجديدة تساعد على تجاوز الأزمة وخلق مؤسسات حديثة ومتطورة ومواكبة للعصر. الا أن أولوية الاولويات في ليبيا تكمن في تدعيم الحوار مع السلفية الجهادية المسلحة والعمل على ادماجها في الحياة السياسية تجنبا لمرحلة طويلة من الاضطراب السياسي على شاكلة افغانستان.