لا أنكر الماضي وإن كان جميلا، لكنني لا أجعله تمثالا، لستُ من الذين يحدّقون بإدمان في مرآة عاكسة للماوراء، (خاصة وإني لم أتعلّم بعد قيادة السيارة) (مع أني معجب بطائر «الكوليبري» وهو الطائر الوحيد القادر على الطيران التراجعي) إلا أنني منزعج من عودة الذكرى بما يشبه الحنين إلى ماض كانت فيه العلاقات ثقافية بين أهل الثقافة. (2) قد اضطر الآن اضطرارا لاستخدام الفعل الناقص: كان. فقد كانت العلاقات بين أهل الثقافة تتّسم، في المقاهي والنوادي الثقافية والدور السينمائية، بهذا الهاجس الذي عاشه جيلنا منذ ثلاثين سنة وهو يتلخّص في الرغبة في التثقف والحرص على الانخراط في العصر بوسائل كثيرة وكان الكتاب سيّدا وكانت الاسطوانة الغنائية أقل حظا من الكتاب، وكنت ترى أحدهم يتأبّط كتبا، قد لا يقرأها في أغلب الأحوال، لكن هذه الكتب هي التي تصنع تأشيرة عبوره للانضمام إلى حلقة ثقافية كانت تقام صدفة في هذا المقهى أو ذاك. لقد كان الكتاب سيّدا وحاسما في ربط الصداقات بين جيل كان يحلم بأن تصبح له القيادة الثقافية والريادة والطلائعية لبناء مجتمع يجاهد في الخروج من التخلّف. (3) وكان الكتاب نادرا أو غاليا أو مفقودا من السوق وكان يلذّ للبعض أن يحتكر الكتاب، وبعضهم كان يخفي مصادر تعلمه، ولكنه كان ينزل إلى المقهى حتى «يعلّم» الناس والشباب خاصة ما لا يعلمون. وكانت الخصومات تقوم بين هذا وذاك «لأنه تسلّف من عندي كتابا ولم يرجعه»، وكان أن توفرت، في ذلك الوقت، «إطارات» تتمتّع بلياقة يدوية قادرة على انتشال الكتب من رفوف المكتبات التجارية ويتم ذلك بمنتهى البراعة والرشاقة. (4) وكانت المقاهي تتّسع للجميع، حيث الاختلاف ممكن والنقاش لا يكفّ عن الدوران وكان إذا ادّعى أحد أنّ الكاتب الفلاني قال كلاما أو موقفا، وعارضه أحدهم، فإن المدعي مطالب في الغد باحضار الكتاب حتى يثبت صحة ما ادّعاه وإلا صار من الكاذبين والمنبوذين فلا يجد بعد تلك الحادثة من يجالسه أو يثق في ثقافته ومصداقيته. (5) كان الكتاب سيّد المجالس حيث تتكدّس الكتب والأسفار على طاولات أهل الثقافة في المقاهي وكان صدور كتاب جديد قادرا على انجاز خصومات واختلافات وقراءات من زوايا متعددة. وفي خضمّ ذلك، كان القاصّ يسأل عن كتابته الجديدة، وفي المقهى كان هناك مجال لأن يقرأ أحدهم قصّة قصيرة، أو قصيدة شعرية، وكانت العبارة الدارجة بين هؤلاء المتطلعين إلى أن يكونوا مثقفين ورياديين وطلائعيين هي: «ما جديدك» و»اقرأ على مسامعنا» أو «أنشدنا ما جادت به القريحة» وبين هذا وذاك يحصل استماع جيّد، وقد يمتنع أحدهم عن قراءة «جديدة» لأنه يخاف أن يكتشف أحدهم أمره إذا كان «جديده» هذا هو مجرد «قديم غيره» وكان الأدباء يستحون من السرقة الأدبية، التي تعتبر عارا إذا التقصت بأحد، فإنه سيكون حكما بالاعدام الثقافي أو بالطرد النهائي من كل المجالس الأدبية والثقافية. (6) ولم يكن هذا الماضي خاليا من أمراض النميمة والاغتياب والحسد، والمشاحنات اللفظية، والاعتداءات الجسدية التي تتم في العادة، في إطار من التأديب بهدف الارجاع إلى الطريق السوي، وكان حادث الاعتداء بالعنف بين أهل الثقافة والفكر والفن نادرا ويتندّر به فيما بعد، ثم ينسى. (7) إن استدراج الماضي للعودة، لا يجب أن ينسينا بهجة الحاضر الذي ازدهرت فيه المنابر الاعلامية المتنوعة، والمجالس الثقافية التي صارت متاحة أكثر من ذي قبل، ولعلّ هذه الكثرة هي التي جعلت من كل من هبّ ودبّ وشبّ وسبّ كاتبا وصحافيا وشاعرا ورسّاما وسينمائيا ومطربا وممثلا والكلّ يدّعي أنه الأجدر والأحسن والأخطر من كلّ هذا أن السمة البارزة لأغلب (أقول لأغلب) هؤلاء هي أن كل شيء يبرّر فعله الثقافي، وإذا كانت البطحاء الثقافية غير مبالية به، فإنه، في هذه الحالة يلتجئ إلى فعل أيّ شيء من أجل اقناع الآخرين بأنه «مقموع» و»مقصى» وإذا لم يكسب تعاطف الآخرين لجأ إلى كلّ الوسائل التي يتسيّدها العنف. (8) ولا يمكن للماضي أن يكون أجمل من الحاضر ولا يجب أن ينخرط أهل الثقافة والفكر والكتابة في زوايا ضيّقة ذات قوائم مغلقة والحال ان الثقافة لا تُبنى إلاّ بالجدل والكلمات لا بالجلد واللكمات.