الحكم ارتباط الدنيا بالآخرة إن ارتباط جانب الدين بالدنيا في الإسلام كثير الورود على ألسنة كبار الصحابة. من ذلك ما قاله علي بن أبي طالب: «قدم رسول الله أبا بكر يصلي بالناس وأنا حاضر غير غائب وصحيح غير مريض، ولو شاء أن يقدمني لقدمني، فرضينا لدنيانا من رضيه الله ورسوله عليه السلام لديننا» (النووي: تهذيب الأسماء واللغات، ج2 ص 191) ومع أن أبا بكر الصديق قدمه الرسول (صلعم) لإمام المسلمين، فإنه لم يتسلم مقاليد الخلافة إلا بعد مشاورات بين كبار الصحابة، ومناقشات حادة أبدى فيها كل حزب مزايا مرشحه، وتعرف الناس من خلالها على السياسة التي سيسلكها كل واحد إذا ما تم انتخابه (ما يسمى اليوم ببرنامج الحزب) فأعجبهم برنامج أبي بكر الذي أعلنه للعموم عندما خطب فيهم للحصول على بيعتهم وهو هذا: «أيها الناس إني قد وُليت عليكم ولست بخيركم. فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني: الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له إن شاء الله. والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله. لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا قوم ضربهم الله بالذل ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة عليكم» (ابن هاشم، جزء 4 ص 91) وهو ما جعل الخوارج يستحلون عزل الخليفة أو قتله إذا ما جار أو خالف الشريعة وقد خرجوا عن الإمام علي وبعض أئمتهم لهفوة صغيرة ارتكبوها. شروط الشورى من الأحاديث التي دارت في سقيفة بني ساعده وظهور أحزاب متعدد بين المسلمين (من بينها حزبا بني هاشم بزعامة علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب، وحزب بني أمية بزعامة عثمان وحزب بني زهرة بزعامة عبد الرحمان بن عفو وحزب الخزرج بزعامة سعد بن عبادة. ولم يغز أبو بكر إلا لأنه كان يمثل الرجل الذي عاشر النبي صلى الله عليه سلم أكثر من غيره وأكثرهم تصديقا لما جاء به). تبين أن الشورى نظام محفوف بالمخاطر ولا يمكن الاستفادة منه على أحسن وجه إلا إذا وقع تقييده بشروط منها: الالتزام بما أمر به الله ورسوله امتثالا لما في هذه الآية الكريمة: «فإن تناز عتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا» (الآية 59 صورة النساء). فيكون قصده من إبداء رأيه طاعة الله والرسول والسعي إلى مصلحة المسلمين. اختيار الأصلح للمنصب لقوله صلى الله عليه وسلم: « من قلد رجلا عملا على عصابة (مجموعة) وهو يجد في تلك العصابة أرضى منه، فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين. (رواه الحاكم في صحيحه) ويختلف المقصود بالأصلح تبعا للظروف التي تمر بها الأمة، فإن كان الناس مقبلين على حرب أو يخوضون غمارها، فالأصلح هو الذي له إلمام كبير بمتطلبات المعركة وله قدرة على مواجهتها وإن كانت الأمة في أزمة اقتصاديّة، فالأصلح هو الذي له خبرة في شؤون الاقتصاد وله حلول تسمح بالخروج من تلك الأزمة وإن كانت الأمة تعاني من مشاكل أخلاقيّة وتربويّة فالأحكم هو اختيار أهل الذّكر ... إلى غير ذلك من الأمثلة التي يطول سردها والتي يدل على نفع الشخص أو المجموعة لأكثرية أبناء الأمة. ألا يكون متلهفا على المنصب فيعميه ذلك عن حب الحق لأنه لا يريد إلا العلو والإفساد، وقد قال الرسول صلّى الله عليه وسلم في هذا المعنى: «إنا لا نولى... أمرنا هذا من طلبه»! وهذا ما يفسر لنا أن الخلفاء الراشدين لم يطلبو الخلافة وإنما وقع ترشيحهم إليها، فالذي رشح أبا بكر للخلافة هو سيد الخزرج بشير بن سعد (وقيل عمر بن الخطاب) والذي رشح عمر بن الخطاب هو أبو بكر، والذي رشح عثمان بن عفان هو مجلس الشورى الذي رجحت لديه كفته على علي بن أبي طالب، وتردده بين اثنين هو بمثابة ترشيح للثاني بعد الأول. وهو ما تم بالفعل. الشعور بأن الحكم مهما كان أسلوبه وشكله هو ومسؤولية وليس تكليف أو تشريف !! ويستخلص ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر في شأنها: «إنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من آخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها» (رواه مسلم). الشعور بالمسؤوليّة كما قال النبي ے «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته ... الحديث». (رواه مسلم) إلى غير ذلك من الشروط التي يجب توفيرها في الناخب والمنتخب مما يجعل الشورى مبدأ يمزج المثالية بالواقع الموضوعي مع وجوب احترام الآخر وحق الاختلاف! وهذا الجانب المثالي في الشورى هو الذي أكسبها قدرتها على مذهبة الحكم في الإسلام. وتمعن معي سيدي القارئ سموّ هذا الفكر الحر لمفكر وكاتب فلسفي ساهم بكتاباته الرائعة في إندلاع الثورة الفرنسيّة (1789) وبناء صرحها بكل مقوّمات التي تستلزمها وخاصة الديمقراطيّة والإيمان بحق الإختلاف وإحترام رأي الغير: « je ne suis pas d'accord avec ce que vous dites mais je me battrai jusqu'au bout que vous puissiez le dire. (Voltaire) » والله وليّ التوفيق بقلم الدكتور علي طراد