هي ساحة كبرى مسيّجة، يتّخذها أهل البلدة لاجتماع الأنام والأنعام في يوم معلوم من الأسبوع، يتمّ فيه البيع والشّراء، وتبادل المعلومات، وعقد الصّفقات . فتراهم إذا ضمّهم المكان، يصخبون ويجأرون، فالدّوابّ في رغي أو ثغاء أو خوار، وبنو آدم في تصايح وتشاتم، ومن كل ذلك يمتلئ المكان جلبة وضوضاء، وبهذا قد يكون اسم الدّبدابة مشتقّا من دبدب بمعنى صخب وأجلب، كما جاء في المعجم الوجيز. ترى في المكان فلاّحا أتى لشراء بقرة حلوب، وتاجر مواشي جاء يبيع حملانه،وسمسارا يبحلق في الوجوه بحثا عن صفقة، ولصوص دوابّ يترصّدون الغافلين،وموظّف الضّرائب بيده دفتر الاستخلاص، وبائعة بيض تتخفّى وراء أكياس الحبوب، وبدويّا عجوزا يبحث عن مغارس شابّ. وفي نفس المكان دوابّ من ذوات الوبر أو الصّوف أو الشّعر أو الرّيش، بعضها ملتصق بالأرض، وبعضها ترفعه قوائمه مترا فما فوق. بعضها مما يؤكل لحمه أو يشرب لبنه، وبعضها مما يستعمل للحمل أوالرّكوب، وكلها واقفة ساكنة، أما الناس حولها ففي حركة دؤوبة متّصلة، لا تكفّ أفواههم عن الثرثرة والنّقاش. فهم من صفقة إلى أخرى لا يتوقّفون إلا بعد أن يجفّ الرّيق و تفقد الألسنة بلاغة الحجّة وفصاحة الكلام. عندها تتبادل الأيدي البضاعة بالنّقود، ويفترق الجمعان، وبعدها لا تلاوم ولا نقد ولا تراجع، وتطلق عبارة « الفراق م الدّبدابة» التي ذهبت مثلا عند أهل تونس، تعبيرا عن أنّ الوفاق هو شريعة المتعاقدين، وأنّ من اتّفقوا في الدّبدابة عليهم الرّضا بما حصل، والقطع مع كلّ احتجاج، ممّا أرجو أن يحدث مثله بعد انتخابات أكتوبر القادم. تذكّرت دبدابة ماطر التي طالما ذهبت إليها مع جدّي، وأنا مأخوذ في سهرات رمضان بساحة الأحزاب التي تطالعنا بها التّلفزة أواخر كلّ ليلة، يظهر فيها رجال كأنّهم تجّار يسوّقون بضاعة كاسدة، أو كأنّهم سماسرة يزوّقون بالكلام ما أفسدته الأيّام، فتنجدني الذّاكرة بأشباه لهم خزّنتهم منذ زمن بعيد، وبمواقف وأحوال أقرب ما تكون لما هم فيه، فأتصوّر نفسي وسط دبدابة سياسية فيها سماسرة، وتجّار مواشي، وجباة ضرائب، ولصوص دوابّ، ونشالون، ودائنون ومدينون، يعرض كل منهم سحنته في شاشة الجهاز، ويدلق على المشاهدين آراءه بالتّفصيل المملّ، مبشّرا بنبوءات عن مستقبل لا يتصوّره إلا مزهرا برّاقا، فيتلقّفونها منبهرين بحركات اليدين وتقلّبات عضلات الوجه، من ابتسام عريض أبله، إلى انعقاد غاضب للحاجبين، ، ودفع الذّقن إلى الأمام تحدّيا، إلى انفتاح الجفنين تصلّبا، إلى تضييقهما مع رقص الرّموش استعطافا وتملّقا. هكذا مرّت بنا في كلّ ليلة دفعة من رؤساء الأحزاب المائة وخمسة، الطّامعة في ودّنا، المستعدّة لخدمتنا والتّضحية براحتها، حبّا فينا وفي الوطن، ولا نوايا لها غير ذلك. ولو أمعنت النّظر لرأيت في يمين كل مسؤول حزبيّ تحليلا ضافيا لحال بلادنا وما أصابها من بلاء مبين، وفي يساره أفكار بناء وتنمية، وحلولا جريئة للخروج من ضيق ما نحن فيه إلى مصافّ الدّول المتقدّمة، دون المرور بمنطقة الدّول النّامية. فكم من سدود ستبنى، وكم من مصانع ستشيّد، وكم من زراعات جديدة ستبعث، وكم هي وسائل تنمية الثروة التي يملكونها، وما أروع درايتهم بعدالة توزيعها. فالإصلاح سيمسّ كلّ قطاع: القضاء، التربية، الصحّة، الفلاحة...والأروع من كلّ ذلك أننا في كلّ ليلة نسمع وعودا بتشغيل كافّة العاطلين عن العمل، إلى درجة تصوّرت معها أنّ تونس من هنا إلى نهاية السّنة، ستخلو من أيّ بطّال، بل قد تضطرّ في مستقبل الأيّام إلى جلب العاطلين من مالطا أو جنوب إيطاليا، من حيث كانت تجلب فرنسا كسّاري الحجارة في الأعوام الأولى لاحتلالها تونس. أتمعّن في الوجوه الطّالعة في التلفزة فأرى بعضها محتقنا منتفخا، وأرى أحينا رؤوسا غاطسة في حفرة العنق،وأخرى ترفعها رقبة كالزّمّارة، من هنا وجه معشوشب لم تدخله الموسى منذ أيّام، ومن هناك صلعة تلمع، أو أنف أفطس، أو جبين مغضّن مقرون الحاجبين، وهذا على وسامة وأناقة الخارج يوم عيد. سحن، وجوه، خلايق، مناظر، فتشاتات ( بالطّليان) فيها ما يشبه الثعالب، أو القنافذ، أو القطط، أو الدّيكة والطّواويس، وفيها أيضا ما يشبه البوم أو الدّجاج. لا أستطيع في كل الأحوال استعراض المائة التي رأيتها، ولا الخمسة التي أخذني النّعاس فلم أنعم برؤيتها، لكن حصل عندي من خطاب هؤلاء السادة والسيّدات اختلاط وتشابه للآراء، وتكرار وترادف للأفكار،وتماثل وتماهي بين المشاريع، ما شوّش أفكاري عوض أن يوضّحها، ونثر الضّباب في طريقي عوض أن يملأه ضوءا ونورا . وفي كلّ الأحوال لم أشعر من خطاب هؤلاء السّادة والسيّدات زعماء الأحزاب محبّة للنّاس، ولا احتراما لذكائهم، بقدر ما أحسست فيها شدّة اعتدادهم بأنفسهم، وقوّة حبّهم لذواتهم.