٭ بقلم الدكتور علي طراد ٭ القضاء والشورى: إن محل الشورى في القضاء هو ما اختلفت فيه أقوال الفقهاء وتعارضت فيه آراؤهم في المسائل الداخلية في الإجتهاد. وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يُندب للقاضي أن يستشير في ما يُعرض عليه من الوقائع ما يشكل عليه أمرها إذا لم يتبين له فيها الحكم. أما الحكم المعلوم بنص أو إجتماع أو قياس جلي، فلا مدخل للمشاورة فيه. وفي قول عند المالكية أن القاضي يُؤمر بألا يقضي فيما سبيله الإجتهاد إلا بعد مشورة من يُسوغ له الإجتهاد، إذا لم يكن القاضي من أهل الإجتهاد. وعلى القول بالندب لا يُلزم باستشارة مستشاريه، فإذا حكم باجتهاده فليس لأحد أن يعترض عليه لأن في ذلك افتياتا عليه وإن خالف اجتهاده، إلا أن يحكم بما يُخالف نصا من كتاب أو سنة، أو اجتماعا، وذلك لوجوب نقض حكمه في هذه الحالة. ويُشاور القاضي الموافقين والمخالفين من الفقهاء ويسألهم عن حججهم ليقف على أدلة كل فريق فيكون اجتهاده أقرب إلى الصواب. (حاشية الجمل: الشرقاوي). فإذا لم يقع اجتهاد القاضي على شيء، وبقيت الحادثة مختلفة ومشكلة، كتب إلى فقهاء غير مصره، فالمشاورة بالكتاب سنة في الحوادث الشرعية (حاشية ابن العابدين). ٭ مستلزمات المشورة : على من استشير أن يصدق في مشورته لقول النبي صلى الله عليه وسلم : «المستشار مؤتمن» (أخرجه الترمذي والحاكم)، وقوله « الدين النصيحة» (وفي الحديث : «الدين النصيحة، قالوا : لمن ؟ قال صلى الله عليه وسلم: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» (أخرجه مسلم من حديث تميم الداري)). وسواء استشير في أمر نفسه أم في أمر غيره، فيذكر المحاسن والمساوئ كما يذكر العيوب الشرعية والعيوب العُرفية. ولا يكون ذكر المساوئ من الغيبة المُحرمة إن قصد بذكرها النصيحة. وهذا الحكم شامل في كل ما أريد الاجتماع عليه، كالنكاح، والسفر، والشركة والمجاورة، وإيداع الأمانة، والرواية عنه، والقراءة عنه. (حواشي تحفة المحتاج). ولفقهاء المذاهب تفصيل في حكم ذكر المساوئ، وفي ما يلي بيانه : ذهب المالكية إلى أنه يجوز إلى من استشاره الزوج في التزوج بفلانة إلى أن يذكر له ما يعلمه فيها من العيوب ليحذره منها، ويجوز لمن استشارته المرأة في التزوج بفلان أن يذكر لها ما يعلمه فيه من العيوب لتحذر منه ومحل جواز ذكر المساوئ للمستشار إذا كان هناك من يعرف حال المسؤول عنه غير ذلك المستشار، وإلا وجب عليه البيان، لأنه من باب النصيحة لأخيه المسلم، وفي قول آخر يجب عليه ذكر المساوئ مطلقا، كان عليه من يعرف تلك المساوئ أم لا !! (الشرح الصغير، دار المعارف بمصر). ٭ الشورى فلسفة وسلوك لمعالجة أمور الدنيا : إن الشورى في الإسلام والقرآن منظومة أنتربولوجية متكاملة تتضافر لتجسيدها وبلورتها عديد المقومات البانية لكل حضارة إنسانية كالعقيدة والأخلاق والعلم والتمدين والفكر والإبداع بالمفهوم الأعمق والأشمل، كل ذلك لمعالجة أمور الدنيا وسياستها، سواء في نطاق الأسرة أو المجتمع بكل هياكله : من مؤسسات وجمعيات ومنظمات ودولة، أي بين الناس بعضهم مع بعض وبين «الحاكم» والمحكومين، حتى ولو كان هذا الحاكم والقائد هو الرسول الأعظم محمد بن عبد الله صلوات الله عليه وسلامه. فغير الأحاديث الكثيرة الرائع ك«المستشير معان» و«المستشار مؤتمن». نجد أن التراث السياسي لدولة الرسول في المدينة، حافل بالنماذج التي تجد الشورى كفلسفة في السياسة، فكل قراراته السياسية والحربية كانت خاضعة للتشاور، وكثيرا ما عدل عن رأيه عندما كشفت المشاورة عن خطئه، وكثيرا ما سأله صحابته عن رأيه أو موقفه أوحي هو أم رأي، فإن قال لهم إنه رأي قدموا ما عندهم، وكانت الشورى سبيلا لتعديل الرأي أو الموقف ! كما يبرز لنا في تراث هذه الفترة تلك التوجيهات التي قصد الرسول بها أن يُعلم صحابته السلوك الشوري في إدارة أمور الحرب والسياسة. فهو عندما يُرسل أحد الجيوش للقتال يُوصي الجند أن القائد فلان، فإن قتل ففلان، فإن قتل ففلان، فإن قتل فالجيش يختار قائده، وهو بذلك يضع الشورى كفلسفة للحكم والقيادة موضع التطبيق. وانطلاقا من هذا التراث السياسي والنظري والعملي، كان إجماع المسلمين، بعد رسولهم، على أن الشورى هي السبيل لقيام رأس الدولة، ومن ثم جهاز الدولة في المجتمع الإسلامي. فهم قد اختلفوا على شخص الخليفة، ولكنهم اتفقوا على أسلوب اختياره وفلسفة تعيينه وطريق تمييزه. فالأنصار أرادوا «اختيار» سعد بن عبادة وجمهرة المهاجرين أرادوا «اختيار أبي بكر الصديق ونفر من المهاجرين مال إلى «اختيار» علي بن أبي طالب، ثم استقروا بعد ذلك على «اختيار» أبي بكر. وظلت هذه فلسفتهم وتلك سبيلهم إلى أن تحولت الخلافة إلى ملك عضود على يد معاوية بن أبي سفيان بتأسيس الدولة الأموية. ولما كان القرآن الكريم قد اقتصر في حديثه عن الشورى صراحة وضمنا على تزكيتها كفلسفة للحكم والفصل في أمور الحياة الدنيا، دون أن يحدد ملامحها أو يُعرَج على سبيل تطبيقها. ثم جاءت تطبيقات هذه الفلسفة في العهد النبوي محدودة بحدود تجربة الإسلام الأولى النبوية في المدينة، زمانا ومكانا ومهام، وبقي المجال مفتوحا للإجتهاد في كل ما يخرج عن مبدإ الشورى وفلسفتها، وطوال دولة الخلافة الراشدة انتصر الرأي الذي جعل الرؤية الحقيقية في الشورى والإختيار للخليفة بيد] هيئة المهاجرين الأولين[ التي كانت بمثابة حكومة الرسول في المدينةالمنورة والتي تكونت من العشرة القرشيين الذين تميزوا بكونهم : من ذوي النفوذ في قريش، الممثلين لأهم بطونها السابقين إلى الإسلام، والمهاجرين فيمن هاجر إلى المدينة. وهم العشرة الذين وصفوا بالمبشرين بالجنة، كما الشأن بالنسبة إلى كل المؤمنين المخلصين الصادقين !! وهؤلاء العشرة هم : أبو بكر وطلحة (من تميم)، وعمر وسعيد بن زيد (من عدي)، وعبد الرحمان بن عوف وسعد بن أبي وقاص (من زهرة)، وعلي (من هاشم)، وعثمان (من امية)، والزبير بن العوام (من أسد)، وأبو عبيدة (من فهر). فهذه الهيئة كانت تحيط بيوت أعضائها بمسجد المدينة مقر الحكومة ولها أبواب تفضي إليه. وفي الحرب كان مكانهم أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي الصلاة كان مكانهم خلفه. وبعد الرسول اختصت هذه الهيئة بمنصب الخلافة، تتشاور لتحديد اسم الخليفة، وتبايعه البيعة الخاصة التي ترشحه للبيعة العامة، أي بيعة من عداها من رؤوس المسلمين. فمنها كان ترشيح أبي بكر والبيعة الخاصة له. ومنها كان التشاور والإتفاق على أن يخلف عمر أبا بكر ومن بقيتها كان مجلس الشورى الذي اختار عثمان بن عفان. ومن بقية البقية بدأت البيعة لعلي بعد مقتل عثمان. تلك أولى المؤسسات التي مارست الشورى في السياسة الإسلامية، والتي بقيت في تاريخنا الإسلامي لها معالم واضحة، وإن هناك إشارات في عدد من المراجع إلى مجلس للشورى قام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ضم سبعين عضوا. ولقد أفسح هذا الموقف الإسلامي المجال للفكر السياسي عندما بحث رجاله قضيته : لمن يكون حق اختيار رأس الدولة؟ إنهم قالوا إن هذا الحق هو لأهل الحل والعقد، أي «قادة ثقة» يمثلون رأي الأمة بطريقة صادقة وواقعية وموضوعية. فهم أولو الأمر، يرشحون الحاكم الأعلى ثم تعقد له بعد هذا الترشيح بيعة الجمهور. وأولو الأمر هؤلاء يكون مجموعهم الطليعة التي ترشح الحاكم الأعلى تمهيدا لتقديمه لجمهور الأمة كي يُبايعوه. وأخيرا فإن الفكر الإسلامي عن الشورى، وتطبيقات المسلمين لفلسفتها عبر الأحقاب التاريخية يفتحان باب الإجتهاد واسعا أمام الأساليب والأشكال المنظمة لعملية التشاور. ٭ (يتبع)