(1) في زمن التهافت الذي نعيشه بعد ثورة 14 جانفي، وفي أدغال السّاحة السّياسية التي أنتجت بيننا جحافل من الثورجيّين والسّياسويين الذين سدّوا الأفق وقطعوا الطرق تضيع الإجابة عن سؤال لجوج من وراء هذا التهافت : «أين كان هؤلاء الثورجيين والسّياسويين طوال سنوات من الصمت والجبن والتخاذل والتواطؤ مع السائد والتماهي مع الوضع الوضيع لنظام البوليس المتغوّل؟ «... أين كان هؤلاء عندما كانت قلّة من الشّرفاء المشتعلة أرواحهم كالشموع التي تلاطم الريح العاتية، لا زاد لهم غير الوعي العصيّ بأن البلاد لا تستأهل أن تكون مجرد مأدبة للئام، ولا طاقة لهم غير جمر الحرية التي تحرق جوانبهم؟ أين كان هؤلاء طوال سنوات حين كان غيرهم في دائرة التتبع والملاحقة والمحاكمة والتعذيب والسّجن والحرمان من أدنى الحقوق والتهميش والشيطنة والإقصاء؟ ؟؟... أقول هذا الكلام وأنا أفكر في محنة جلال بن بريك الزّغلامي الذي يريده البعض من الأصدقاء والأعداء أن يكون كبش فداء لهذا التهافت عينه. (2) يتعرض جلال بن بريك إلى أكبر مظلمة بعد الثورة... .أعرفه منذ تلك الطفولة المنفلتة التي قضيناها تحت ظل سفح الجبل الحديدي «كاف مراندي» في الجريصة، فهو المحامي المحروم منذ زمن بن علي إلى اليوم من ممارسة عمله، فقد سبق له وأن تمكن من تسجيل إسمه عام 2006 في دفتر الهيئة الوطنية للمحامين التي كان يرأسها الأستاذ عبد الستار بن موسى ليباشر نشاطه المهني، غير أنه لم يباشر هذه المهنة إلا بضع أسابيع في مكتب الأستاذ عبد الرؤوف العيادي، إذ أن النيابة العمومية وبأمر من الجنرال بن علي منعته من هذا الحق، وتعد هذه الحادثة الأولى من نوعها منذ تأسيس الدولة التونسية الحديثة أن يتدخل رئيس الدولة شخصيا لحرمان محام من حقه في العمل كردة فعل انتقامية لما قام به جلال بن بريك الزغلامي في سياق نضاله السياسي عندما قام في 26 جانفي 2001 مع عدد من المناضلين الحقوقيين والنقابيين بإعادة إصدار جريدة «قوس الكرامة» التي تضمنت نقدا لاذعا لنظام بن علي وفساد نظامه على المستوى السياسي والأخلاقي والإجتماعي والإقتصادي، وهو نفس العدد الذي كتب فيه الأستاذ جلال بن بريك إفتتاحيته الشهيرة وهي عبارة عن رسالة موجهة للجنرال المخلوع بعنوان «بن علي 13 سنة باستا»، وهي الإفتتاحية الشهيرة التي أسالت لعاب بن علي الإنتقامي وكلابه، إذ تمّ مباشرة إعطاء الأوامر لإغتيال جلال بن بريك حيث تعرض إلى مقتلة نجا منها بأعجوبة، وتمت بعد ذلك سلسلة التضييقات وتلفيق القضايا السريالية لشخصه لعل أغربها تهمته بالاعتداء على فانوس كهربائي خلفي لسيارة موظف، وهي نفس الأساليب التي إلتجأ إليها بن علي في الإنتقام من شقيقه الكاتب والصحفي توفيق بن بريك لعل آخرها كما هو معلوم الدفع بإمرأة معروفة بعلاقتها بالشرطة إلى «التبلّي» عليه في وضح النهار وإيداعه السجن بتهم كاريكاتورية تخفي نوايا النظام البوليسي ومستواه الأخلاقي الضحل في تصفية مناوئيه السياسيين. (3) والأغرب من ذلك أن الأستاذ جلال بن بريك الذي عرف القمع التلمذي والجامعي في أواخر زمن بورقيبة والمحاكمات والمطاردات والسجن والهرسلة النفسية والعدوان الرمزي والمادي المستمر على شخصه وعائلته في زمن بن علي، يجد نفسه مكبلا اليوم بعشرات القضايا في المحاكم ومحروما من شهادة العفو التشريعي العام من أجل استرداد حقوقه المدنية والسياسية التي فقدها بسنوات السجن زمن الجنرال المخلوع دفاعا عن كرامة التونسيين وعن كرامة هؤلاء المتهافتين على استحقاقات المجلس التأسيسي والانتخابات والنشاط السياسي... بل الأغرب من كل ذلك أن مطلب الأستاذ جلال بن بريك في تمكنه من العفو التشريعي العام يتم « تجاهله» من طرف هيئة عمادة المحامين التونسيين التي يترأسها العميد الحالي عبد الرزاق الكيلاني، كما أن وزير العدل الحالي في الحكومة الإنتقالية السيد لزهر الشابي والذي سبق له أن اطلع على قضية الأستاذ جلال بن بريك الزغلامي عندما كان عميدا لهيئة المحامين لم يتخذ أي قرار من جانبه لحلحلة مشكل بن بريك... وهو ما يعني أن هذه الثورة التونسية – ثورة الحرية والكرامة – يريدها البعض تكريسا لنفس الأساليب في هضم الحقوق وتهميش الذوات، بل يريدونها آكلة لأبنائها، وأعتقد أن جلال بن بريك من أبنائها الفصيحين الذين لم يهرولوا كما البعض للتهافت على «غنائم» الثورة كما نشاهد اليوم، فمثل جلال بن بريك لا يزال يحفظ ماء وجهه كما حافظ منذ طفولته على ذلك الوهج الثوري الذي قاده إلى الثنايا الوعرة... (4) إني على يقين أن المظلمة التي يعيشها جلال بن بريك مظلمة فريدة بعد سقوط الطاغية... وعلى يقين أنه مهما كانت المهزلة سواء من زاوية تهافت الثوريين وطلاب البكارات والطهارة ومن زاوية تهافت تهافت المتظاهرين برد الحقوق إلى أصحابها فإني على يقين أن استمرار المظلمة واستمرار محنة جلال بن بريك جزء من هذه العفونة المستمرة التي لا تجرؤ في الكشف عن مخاوفها من الموقف الثوري الجذري الذي يعبر عنه الإنتماء السياسي والأيدولوجي لبن بريك وتحديد الفزع من صلابة المواقف لحزب «رابطة اليسار العمالي» المتهم بالتطرف وهو الأمر الذي يشكل رهابا في أذهان اليمين واليسار... فكيف يتم بعد ثورة 14 جانفي منح الحقوق كاملة وتمكينهم من إسترداد حقوقهم المعنوية والسياسية لأطراف لم تشارك في الثورة بل كانت في العهد القريب موصوفة بالعنف والتطرف ولم تعبر يوما عن تمسكها بالمبادئ الجمهورية التي قامت من أجلها الثورة، ويتم بالمقابل التغاضي عن رجل قدم هو وعائلته كل ما في وسعهم للدفاع عن الكرامة والحرية؟؟؟؟ أليس هذا أيضا الوجه الثالث للتهافت البذيء والقبيح؟ (5) إني أدرك تمام الإدراك أن جلال المؤمن ب«الثورة الدائمة» قد يزعجه هذا النفس الاستعطافي الذي قد يحيله هذا الكلام حوله، ولكن رغم ذلك لقد آن الأوان ومن الواجب التاريخي والحقوقي أن نقول «باستا» لهذا النزيف المعنوي والداخلي الذي يعيشه جلال بن بريك، هذا الرجل الفصيح النازل من أسلاف لا تعرف الذلة والمهانة، هذا المناضل الطبقي على طريقة الطاوية على حد عبارة عبد الكبير الخطيبي، هذا الذي قدت إرادته من حديد جبال الجريصة ومن مفاخر السلالة التي كالنجوم رصعت السماء وزينت الأرض... «باستا» أعيدوا لجلال حقوقه بلا مزايا، ... «باستا» بن علي هرب.