.. كيف يمكن للتاريخ أن يُسامح؟.. كيف يمكن أن نطوي صفحة الماضي والألم مازال ساكنا بين الضلوع؟ كيف يصبح الجلاّد ضحية.. والضحية تساند الجلاّد؟ أسئلة في البال وخواطر تأبى أن تخاطر بالرحيل.. أعوام وأعوام خلف القضبان.. التهمة هي الانتماء والجريمة عنوانها «النهضة» لكن بطاقة السوابق لا تسجل عقود السجن إلا تحت عنوان مخالفة القوانين. هكذا هي احدى القصص التي يرى فيها البعض أنها عابرة.. لكنها رواية من ألف رواية.. لا يمكنها إلا أن تحتل رفوف الذاكرة ومنها ينحت مستقبل جيل كامل.. لماذا نظلم بعضنا البعض.. لماذا نأسر الحرية بين الجدران وخلف القضبان.. وهل يمكن لنا أن نتعايش معا.. في وطن يتسع للجميع؟ «محمد قصي الجعايبي».. قصة وطن مختزلة في سنوات تعذيب وحرمان بعنوان جريمة لم ترتكب بعد اسمها «ليلة المؤتمر» هو رقم من إثني عشر متهما.. نالوا من التعذيب الشيء الكثير بدهاليز الداخلية لمدة 40 يوما.. ولم يحاكموا إلا بعد 3 سنوات بأحكام اختلفت من المؤبد وبقية العمر الى 26 عاما سجنا. وكانت الجريمة آنذاك الانتماء لحركة «النهضة» المحظورة غير المعترف بها، ودونوا بالمحاضر أنهم اعترفوا بانضمامهم إليها وبنشاطهم صلب هياكلها وأن جريمتهم عقائدية. أربعة من المعتقلين السابقين الذين وقع إيقافهم خلال سنة 93، عقدوا ندوة صحفية مؤخرا بالعاصمة كشفوا من خلالها الكثير.. (محمد المسدي قائد طائرة سابق بالخطوط التونسية) وحمادي بن عبد اللّه فلاح من سليانة ورشاد سعيدان (كان يومها يعد رسالة دكتوراه في الرياضيات) ومحمد قصّي الجعايبي (صيدلاني). محدثنا محمد قصي الجعايبي.. رغم مغادرته السجن من حكم 26 عاما قضى منها 13 عشر عاما خلف القضبان مازالت الغصّة تسكن قلبه وإحساس الظلم والقهر.. يعيشان في تفاصيل حياته من التعذيب الى السجن الى السجن الكبير للمجتمع.. والى المراقبة الادارية. 5 قوائم على الحرية المزعومة المثقلة بهموم الماضي.. ومحمد قصّي.. يبحث عن سبب واحد يجعله يفقد حريته وحياته بتلك الطريقة المؤلمة.. وهو يدرك جيدا أن السبب الحقيقي وراء توريطه وغيره ومحاكمته أن القضية لم تكن إلا سياسية أمنية ملفقة. محمد قصّي وغيره ممن نالوا من التعذيب الشيء الكثير.. قرّروا الخروج عن صمتهم وقرّروا أن ينشروا للعالم حقيقة ما كانوا يعانون.. حتى نتّعظ من الدرس.. يقول قصي: «غصّة في القلب ماتزال ساكنة في العروق.. أربعون يوما من التعذيب.. وثلاث سنوات انتظار لمحاكمة ظالمة من قضاة أشدّ ظلما من النظام.. نريد للشعب الذي لا يعرف أن يعلم أن بتونس الكثير من المظلومين ممّن دفعوا من حياتهم سنوات شبابهم خلف جدران مظلمة لا تحمل إلا صرخات الوجيعة والألم.. صرخات لن تمحوها ألوان الطبيعة وعلب الألوان الزيتية ولا المائية.. لأنها نقشت في الذاكرة.. وتركت بصمتها على أجسادها فكبرت معنا حتى صارت جزءا لا يتجزّأ من حياتنا. وجب فتح هذه الملفات وعرضها الى العموم الى الشعب ليدرك الكثير والكثير من التفاصيل المخيفة عن الأعين، إنها محاكمات سياسية ظالمة الى حدّ الوجع.. ضحاياها كثيرون وكثيرون.. جزء منهم استشهد تحت التعذيب والبقية قتلوهم أحياء وسجنوهم داخل حدود الوطن.. هذه الملفات يجب أن يطلع عليها المواطنون وعلى تفاصيلها.. وعلى مراحل محاكمتها حتى نتعظ وحتى يمكن بناء وطن جديد قلبه مفتوح للجميع. هذا جزء من حكاية.. تشبه آلاف الحكايات التي تجاورها بالوجع والألم.. قصة من آلاف القصص الأخرى التي سنعود إليها تباعا.. قصص من ذاكرة تونس التي لا تحتمل تأجيل.. قصص لا يمكن للتاريخ أن يمحوها من سجلات المعتقلين السياسيين الذين مرّوا من هنا.. من دهاليز وزارة الداخلية.. وأقبيتها..».