على مدى يومين انتفض مجددا أهالي سيدي بوزيد... والحصيلة ثقيلة جدا: حرق عديد المؤسسات والمقرات الرسمية والسيارات.. إعادة فرض حظر الجولان بالولاية.. وفوق هذا جرح كبير خلفته هذه الأحداث المؤسفة على صفحات تجربة ديمقراطية ناشئة توجت بعرس انتخابي شهد له القاصي والداني. لماذا حدث ما حدث؟ ومن يتحمل مسؤولية ما جرى؟ وكيف نتجنب مثل هذه المطبات مستقبلا؟ أسئلة تستدعي التوقف عندها ومحاولة توفير عناصر تجيب عنها.. لنقل منذ البداية ان غضبة أهالي سيدي بوزيد لم تكن مجانية ولم تنطلق من فراغ.. وان كان العنف والتخريب والحرق أشياء غير مبررة فإن حالات الاحتقان التي سببتها تبقى مفهومة خاصة إذا تراكمت عديد الأسباب في ظرف زمني وجيز غذى شعورا ب«الحقرة» لدى الأهالي الذين وجدوا فيها نوعا من الإهانة التي تنضاف إلى الاقصاء والتهميش وغياب أفق حقيقي للتنمية. وحتى نسمي الأشياء بمسمياتها فإنه لا مفر من التوقف عند هذه الأخطاء الفظيعة والتي ربما قد تكون غير مقصودة لكنها وفرت أسبابا لهذا الحريق الذي بتنا نتمنى أن يتحرك حكماء البلاد لتطويقه ومنع شظاياه من الانتشار. في طليعة هذه الأخطاء نجد الأداء المتردد للهيئة العليا المستقلة للانتخابات.. بما أن قرارها القاضي بإسقاط قائمات للعريضة الشعبية. (للهاشمي الحامدي وهو أصيل سيدي بوزيد) قد كان بمثابة القطرة التي أفاضت كأس الغضب. فقد كان أمام الهيئة ومنذ أسابيع متسع من الوقت لتتثبت في كل الشوائب التي يمكن الاحتجاج بها الآن لتبرير عملية إسقاط القوائم سواء ما تعلق منها بانتماء رؤساء قوائم للتجمع المنحل أو بالمال السياسي المتدفق أو بالاشهار السياسي الذي مارسه الحامدي من خلال قناته المستقلة. وإذا ما وضعنا في الميزان حالة التردد والترقب والتمطيط التي شهدتها عملية الاعلان عن النتائج الاولية، ومع انها تبقى مفهومة ومبررة، إلا أنها اسهمت بشكل غير مباشر في تغذية أجواء من الشك غذّت بدورها عوامل الاحتقان التي اختارت التعبير عن نفسها بذلك الشكل الغاضب والمخيف. ثاني الاخطاء الكبرى يتحملها بعض ضيوف المنابر الاعلامية على الفضائيات من ساسة ومحللين انزلقوا في سياق تعبيرهم عن حالات يأس أو غضب او امتعاض من هزيمة لحقتهم في صناديق قابلها نجاح باهر حصدته عريضة نشأت وادانت حملتها الانتخابية وهيأت لحصد ذلك الكم من الأصوات بعيدا عن أي ضجيج ان لم نقل على هامش الحراك السياسي الذي عاشته البلاد في الأسابيع الاخيرة. بعض هؤلاء الخاسرين سقطوا في سياق التنفيس عن مشاعر استبدّت بهم اثر اعلان النتائج في فخ استعمال عبارات مسيئة وخادشة... لأنه لا يحق لأحد، مهما أوتي من «علم» أومن «زاد سياسي» أن يزدري بمواطن عادي وبسيط ولكنه يملك مثله نفس الحقوق ويتحمل نفس الواجبات... ويحق له بالتالي استعمال صوته وتوجيه اختياره صوب المترشح الذي يريد. ثالث هذه الاخطاء قد يكون ناجما عن قلة تجربة أو عن مشاعر انفلتت في لحظة تحليل غاضبة وأفضت الى تفوّه أحد قياديي الحركة الفائزة في الانتخابات بعبارة مسيئة ضد بعض أهالي سيدي بوزيد الذين منحوا أصواتهم لعريضة الحامدي لأنهم (...) وهو ما جعل غضب أهالي الجهة يطال مقرات لحركة النهضة... وهو ما كان يتوجب التنبّه اليه في سياق التجاذبات والمناكفة أو حتى «الحرب الباردة» بين الحركة والهاشمي الحامدي. وحين نضيف الى كل هذه العوامل تأخر ظهور أي أفق واضح للتنمية يغيّر الأحوال في الجهة... وهو تأخر خلق مزاجا بين اليأس والغضب لما وفر أرضية خصبة للاحتقان في حين أتت القطرة التي أفاضت الكأس. والآن، ما المطلوب لتهدئة الخواطر وتطويق بقعة الزيت؟ أكيد أن الخطوة الأولى تتمثل في تقدم كل من أخطأ باعتذار الى أهالي سيدي بوزيد الذين هم جزء عزيز وغال من الشعب التونسي والذين يحوزون مكانة خاصة في القلوب والضمائر لارتباط الثورة التونسية بهذه المدينة المناضلة.. في حين تأتي في المقام الثاني الهيئة العليا المستقلة للانتخابات التي عليها أن تجتهد أكثر في تفسير وتبرير دواعي تأخرها في اتخاذ قرار قد يكون صائبا ويستقيم قانونيا لكنه ربما يكون قد أتى متأخرا.. أما ثالث الخطوات فيفترض أن تأتي من أبناء سيدي بوزيد ومن حكمائها الذين يفترض أن يلتزموا حتى في التعبير عن غضبهم بالأساليب السلمية التي تبلغ الرسالة ولا تهدد البنيان كله.. نعم الفرج التنموي تأخر للجهة ولباقي الجهات المحرومة ولكنه قادم لا محالة.. ولعل الاسراع في تشكيل الحكومة وفي الانصراف الى العمل سيساهم في انجاز برامج أولية تضخّ جرعات أكسيجين ضرورية في شرايين هذه الجهات التي عانت كثيرا الاقصاء والتهميش.