... اتكأ الى حائط المدرسة الاعدادية... أخرج سيجارة من جيبه وأشعلها بكل بطء... نفث دخانها الى الأعلى قبل أن يمرّرها الى زميله الذي أمسكها بدوره بنفس الطريقة. هما طفلان في الخامسة عشر عاما من العمر... رسبا لسنتين متتاليتين في السنة السابعة اعدادي... أحدهما يقيم متنقلا بين منزلي والديه المطلّقين... والثاني لم يوفر له والده حضانة مدرسية وله ساعة راحة يقضيها دوما أمام المدرسة. ... أطفال الى الشارع... يلعبون... يمرحون ويتعلّمون... ما يحاول الاولياء جاهدين أن لا يعلّمونهم إياه... فتراهم فرادى وجماعات... هذا تغيبت أستاذته وآخر وصل متأخرا فقضى الساعة الاولى الى الرصيف وغيرها من الحالات... في حين يجلس آخرون في انتظار عاملة المحضنة لاصطحابهم... فيسيرون خلفها محاولين الابتعاد قدر الامكان... معتبرين أن الأمر فيه مسّ من رجولتهم المبكرة... أنهم ينتمون الى حضانة... ويبقى الوليّ... بين هتك الجيب لدفع معلوم هذه الحضانة المدرسية التي أضحت اليوم عائلة بديلة اجبارية وبين الحلم بالعودة بالزمن الى الوراء الى «البيّاتة» ونظام نصف المبيت... حيث يحفظ الاطار المدرسي التلميذ ويعلّمه الانضباط. ليتهم يفعلون «... ليتهم يفعلون... انهم بذلك يريحون جيبي وأعصابي...» هكذا انطلق عبد المومني الجبالي كلامه مشيرا الى كونه أب لطفلين في الاعدادي وأنهما يدرسان بالعاصمة في محيط مقر عمله وأنه يدفع مبلغ 240 دينارا شهريا معلوم الحضانة المدرسية التي توفر فطور الغذاء واعداد الدروس المدرسية والمراجعة... مضيفا «أنا مضطر إذ أنه لا خيار لي الا أن أقتسم معهما جزءا من المرتب... ماذا لو كان لنا نظام نصف المبيت فعلا... لكنت مرتاحا وخاصة على المستوى النفسي... أحيانا لا أحسد شقيقي الا في أمر واحد فقط أن ابنه يدرس باعدادية نموذجية حيث ان لهم نظام نصف المبيت والانضباط متوفر... فهو يوصل ابنه صباحا ولا يعود لاصطحابه الا عند انهاء الدروس... هناك يقع توفير الغذاء وكل شيء وحتى المعلوم اعتقد انه في حدود 35 دينارا». لما لا... السيدة سامية أم لثلاثة أطفال اثنان منهم تلميذان بالابتدائي... قالت أن الحضانة منحتها سعرا خاصا جدا وهو ثمانون دينارا للطفلين في الشهر... لكنها تخيّر لو وجد نظام نصف المبيت حتى لا يؤرق تفكيرها مرحلة الاعدادي والثانوي... على أن تتوفر الشروط الصحية في الأكل... وغيرها... فتكون بذلك خدمة للولي وللعائلة وللتلميذ... نصف مبيت نعم لكن! نصف مبيت نعم وكأنها «جنّة وفيها بريكاجي» لكن هل يتحقق الحلم... لا أعتقد...رجاء من الحكومة القادمة التي ستمسك بزمام التخطيط للمستقبل أن تفكر في أطفالنا... كنا صغارا درسنا «في البباصات» وفي «البياتة» وكبرنا على احترام المعلّم ونجحنا وارتقينا اليوم صار الولي متعبا جدا... صرنا نركض بين المحضنة والمدرسة... ندفع الأموال وبالنا غير مرتاح خوفا على صغارنا من الشارع... الهادفي الصادق، كبر أبناؤه وتخرجوا، ورأى الأمر من زاويته أن المنظومة التعليمية برمتها تحتاج الى اعادة نظر مضيفا... مستوى التعليم تراجع، جدا وعلى من سيخططون للمستقبل أن يعيدوا النظر في الأمر... كنت صغيرا درست في معهد اقامة كاملة في صفاقس... اليوم لا أرى الا أطفالا مشروع تائهين في الشارع... فالتعليم صار مهمّش كثيرا... المحاضن توفر فرص الشغل ... الموقف الوحيد الذي رفض النظر الى الموضوع هو للسيدة خديجة صاحبة حضانة مدرسية التي قالت أن هذا المشروع صار يوفر عدة فرص شغل في تونس خاصة في العاصمة الكبرى وأنه لم توفر نظام نصف المبيت للمدارس والمعاهد فإن هذه المحضنات ستغلق نهائيا لأن الولي بطبعه سيختار الفضاء التعليمي لعدة أسباب أولها ابقاء طفله في نفس المكان...وثانيا توفير المال. نصف مبيت... هو أمر موجود وناجح والتفكير في تعميمه يوما ما قد يساعد على حماية الاطفال من الشارع الذي صار له دور الأم في حين أخذ الفايس بوك دور الأب.