عندما تعبّر في المغرب عن رغبتك في زيارة الأحياء القصديرية ينظر اليك مخاطبك بشيء من التململ.. والضيق انها الجزء الدامي من الواقع المغربي... الجزء الذي يتمنى المغاربة نسيانه أو تناسيه ولو لحين. هي المغرب التي لا يعرفها أحد الا من سوّلت له نفسه الأمّارة بالسوء النبش وراء المطبوعات السياحية الجميلة. بين جنبات الحي تنبعث روائح تشعرك أنك وسط مصب للفضلات... هو فوضى معمارية وجمالية وتلوث بصري أطلق عليهما اسم حي لحظة قرر أناس بلا ماضي ولا حاضر ولا مستقبل حط الرحال هناك. «دوّار الڤرعة» اسم يوحي بالفقر من أول وهلة ومكان خارج المكان والزمان... مكان لن تجد له أثرا على خارطة المغرب... هو موجود فقط في عيون ساكنيه.. أحياء أموات لا يعيشون الحياة بل يمرون بجانبها.. مرور الكرام. الحاجة حادة احدى هؤلاء، تعيش في الحي منذ خمسين سنة. من على عتبة منزلها حيث تجلس، تنظر اليّ بصمت وكأنها تعبت من الكلام. هي أرملة على رأس عائلة متكونة من ستة عشر فردا يعيشون كلهم في غرفتين مجاورتين ومطبخ... هي وأبناؤها وأزواجهم وزوجاتهم.. أجساد متراصة ومنهكة تعيش على منحة تقاعد الأب المتوفي الذي تبلغ 150 درهم (30 دينارا) والدراهم القليلة التي تتحصل عليها الحاجة حادة من عملها كطبّاخة في الأفراح او «طيّابة» كما تقول هي. تحاول ان تعود بذاكرتها الى الوراء في ماض لا ملامح وتقول: «خمسون عاما ونحن هنا ولم يتغير شيء... وحدها الجدران تتناسل مثل الفقاقيع» هنا لا شيء قانوني.. لا المباني الفوضوية ولا قنوات المياه الصالحة للشرب «المسروقة» من قنوات الدولة ولا الكهرباء «المستعارة» أيضا من الأسلاك العمومية. الحاجة حادة لا تتذكر انها رأت مسؤولا يزور المكان ولا حتى خلال الحملات الانتخابية، كل الوعود تأتي من وراء شاشة التلفزة. وعود بردم الهوة بين الطبقات والتقريب بين شرائح من المغاربة يفترض ان يكونوا على نفس القدر من الحقوق. لكن الهوة سحيقة... والوعود واهية... والناس تعيبت من الانتظار لذلك تقول الحاجة حادة انها أصرت يوم الانتخابات على الذهاب الى مكتب الاقتراع وصوتت بورقة بيضاء قد لا يلتفت او يتفطن اليها أحد، لكنها الطريقة الوحيدة لتحس أنها لا تزال على قيد الحياة ولا تزلا تملك القوة للغضب... الغضب فقط. غير بعيد عن محدثتنا وفي زقاق لا يزيد عرضه عن المتر ككل أزقة الحي، تلعب ضحى مع صديقاتها، تبتسم ببراءة السبع سنوات وتلمع عيناها وأنا أطلب منها أن التقط لها صورة. أسألها إن كانت تعرف الملك فتجيب بعفوية من لم ير بعد من مصائب الدنيا الا الشيء اليسير: «نعم أعرفه وأحبه» رجال نائمون أجد نفسي فجأة في زقاق أوسع قليلا.. بالكاد متران. تنظر اليّ «خديجة» صديقتي المغربية التي أصرت على مرافقتي الى الحي لأنه «ما من عاقل يدخل الأحياء القصديرية المغربية بمفرده» على حد تعبيرها وتقول بسخرية: «هذا الزقاق يعتبر شارعا كبيرا مقارنة بغيره في الحي». أسألها عن سر غياب الرجال عن حي كل المطلين من نوافذه والواقفين على عتباته نساء فتجيب «كلهم نائمون، هم عاطلون عن العمل لذلك يقضون يومهم في النوم. وحدهم النساء بحاجة الى الاستيقاظ للقيام بشؤون المنزل والعناية بالأطفال». رشيدة من بين هؤلاء ... ولدت هنا... واضطرت ان تنقطع عن الدراسة وتشتغل كمعينة منزلي في الأحياء الراقية لإعالة اخوتها الصغار ثم تزوجت هنا وأنجبت طفلين هما كل ما لديها في هذه الحياة. ينظر اليّ زوجها بربية ويرفض ان يجيب عن أي سؤال. زوج رشيدة يعمل يوما كحمّال في السوق وينام أياما ويفضل أن لا يتكلّم في اي شيء لأنه «لاشيء يقال» أما زوجته فتقول: «أسكن في غرفة واحدة مع زوجي وأطفالي. أكثر ما يقلقني الخوف على أبنائي... لا أظن ان هذا الحي هو المكان المناسب لنشأة الأطفال... وأكثر ما يؤلمني طمع الأغنياء وجشعهم... على قدر امتلاكهم للأموال على قدر رغبتهم في المزيد... أنا اشتغلت في منزل يمتلك صاحبه 12 سيارة... لا أحد يفكّر فينا ولا أدري ان كان هناك أحد يعلم بوجودنا... رغم ذلك ذهبت وانتخبت. انتخبت العدالة والتنمية، من يدري قد يفعل لنا الاسلاميون شيئا». ثم تضيف: «وحده الملك يفكّر في الاصلاح، لو وجد من يساعده في هذا لما تبقى محتاج واحد في المغرب». غير بعيد عن رشيدة يقطن محمد البلغيتي، شاب مغربي في عمر الانطلاق قبل أن يجيب عن أسئلتي دون أدنى تردد. محمد مستوى باكالوريا، أطروده من المعهد إثر رسوبه المتكرر فدرس في التكوين المهني ليحصل اثر ذلك على شهادة تقني في ميكانيك السيارات رغم ذلك يبقى محمد عاطلا عن العمل منذ سنوات ولا يكتفي ببعض الأشغال الوقتية لكي لا يضطر الى أخذ مصروفه من والده. كأي شاب في سنّه يحلم ببعث مشروع خاص لكن حلما كهذا يحتاج الى معجزة لمن في مثل وضعيته. يتحدث بطلاقة وبعمق عن عدم تكافؤ الفرص وعن المحسوبية المتفشية في جنبات المغرب بطريقة قد يعجز عنها خريجو الكليات الكبرى. أسأله عن «فرص» الفساد والانحراف المتاحة لشاب مثله في حي كهذا فيقول مبتسما: «كل شيء متوفّر هنا، الجرائم بأنواعها، المخدرات بأنواعها وكل شيء مرتبط ببعضه... البطالة تقود الى المخدرات والمخدّرات تقود الى السرقة والسرقة تقود الى السجن والسجن يؤدي الى تشريد الأطفال... هل هناك أحسن من هذا؟». محمد لم ينتخب لانه لم يكن في مدينة الرباط ساعتها لكنه كان سينتخب حزب العدالة والتنمية. «تعبنا من الفساد، فلنجرّب الاسلاميين» على حد قوله. ويضيف بابتسامته المعهودة: «وحده الملك في القلب». وأنا أهم بالمغادرة تصرّ سيدة على استدعائنا في بيتها لتناول الشاي المغربي اسمها مليكة مطلقة وتعيش مع ابنتها وأخيها وزوجته في «طابقين»: غرفة بالكاد تتسع لسرير في الطابق الاول وغرفة أخرى بنفس المساحة في الطابق الثاني. الدرج المبني بين الغرفتين يشعرك انه سيسقط في اي لحظة... درجات مائلة عليك ان تنحني لصعودها وتحمد الله على السلامة اثر نزولها. مليكة ايضا معينة منزلية في حي راقي بعيد عن هنا بعد السماء عن الأرض، أخوها بقي عاطلا عن العمل أربعين سنة ليجد عملا منذ وقت غير بعيد كعامل بلدي. إثر طلاقها، عادت مليكة الى غرفة العائلة وبمجهودات الكل تم تشييد الغرفة العلوية... تقول إن هذا الحي قدرها وتتحدث عن العدد الكبير من شبابه القابعين وراء القضبان بحرقة كما لو كانوا أبناءها.. تتكلّم عن الظروف وعن الضنك وعن الحياة التي تعصرهم عصرا فتحوّلهم الى أجساد خاوية بلا قلب ولا روح. يتوافد الجيران الى الغرفة الصغيرة ليروا الزائرة التي تطفلت على عالمهم وكأنهم تذكّروا فجأة انه خارج «دوّار الڤرعة» يوجد عالم... وأناس. يجلس بجانبي شاب من أقارب مليكة في العشرينات من العمر منقطع عن الدراسة وعاطل عن الدراسة كأغلب شباب الحي. أسأله عن المهنة التي كان يحلم ان يمارسها لو أكمل تعليمه. يجيب بابتسامة نصف حالمة نصف ساخرة: طيار... كنت أحلم ان أكون طيّارا».