لم تكن نقاشات فصول وأبواب مشروع النظام الداخلي للمجلس التأسيسي توحي بأنّ الأمور ستنتهي إلى ما انتهت إليه في جلسة مساء السبت الماضي من خلافات حادّة حول أحد الفصول التي تنظّم عمل الهيئة المكلّفة بصياغة الدستور الجديد للبلاد. فالنقاشات التي طغت عليها الرتابة وبدأت بنسق مملّ وصفها كثير من النواب بأنها تهمّ قانونا داخليا للمجلس يُفترض أن يتمّ الاتفاق بشأنه دون إنفاق كل تلك الساعات والأيام في المناقشة ضمن جلسات علنية، وانتهت وسط أجواء ساخنة واتهامات من فريق المعارضة لحركة «النهضة» تحديدا بالسعي إلى الالتفاف على صلاحيات رئيس المجلس وإقصائه من رئاسة هذه الهيئة ذات المهمة الخطيرة. «النهضة» من جانبها نفت بشدّة هذه التهمة وأكّدت ثقتها في بن جعفر وأوضحت أنّ تحفّظها يكمن فقط في التنصيص على ضرورة حضور رئيس الهيئة جميع الجلسات اعتبارا لالتزاماته ومهامه الأخرى التي قد لا تتيح له ذلك، الأمر الذي رأت فيه المعارضة محاولة من الحركة للسيطرة على هذه الهيئة (باعتبار أنّ النائبة الأولى لرئيس المجلس محرزية العبيدي تنتمي إلى كتلة النهضة). وفي غياب صيغة توافقية بشأن هذه النقطة الخلافية تم تأجيل التصويت على الفصل 111 إلى حين اجتماع لجنة النظام الداخلي بالمجلس وتمكين الكتل السياسية من مزيد التشاور والتنسيق، وهو الرأي الأقرب إلى المنطق، لكن هذا التأجيل كشف مرّة أخرى حجم التباين في وجهات النظر بين الفريقين وعكس حالة التجاذب داخل المجلس وإن تعلّق الأمر بشأن داخلي لا يمسّ مصالح الشعب بصفة مباشرة، بل لعلّ هذا الأمر مثّل الوجه الآخر من «المعركة» القائمة داخل «التأسيسي» منذ بداية أشغاله، والتي تتخذ في كلّ مرّة منحى جديدا وتُطبع بطابع المسألة الخلافية المعنيّة. ويبدو أنّ هذه النقطة الخلافية الأخيرة مثّلت فرصة للمعارضة لكسب نقطة إضافية في رصيد تعداد «أخطاء» الفريق الآخر وخاصة حركة «النهضة» فالمعارضة قالت منذ البداية إنّ مشروع النظام الداخلي للمجلس مفصّل على مقاس الحركة، وقالت إنّ نقاش هذا المشروع استهلك وقتا طويلا لا يتناسب مع ما استغرقه الوقت المخصّص لمناقشة ميزانية الدولة وقانون المالية اللّذين تم تمريرهما بسرعة لا تتفق وأهميتهما، وبالتالي بدت المعارضة دائما في موقع من يترصّد الزلّات ويسعى إلى تقويم الانحرافات، وهذا يندرج في صُلب مهمتها، لكن الحسابات السياسية ينبغي ألّا تطغى في كلّ مرّة على أداء المعارضة التي قد تغفل عن التصدّي لمشاريع أو مواقف لا ترى فيها خطرا على موقعها ووزنها وإن كانت على قدر من الانحراف عن الصواب. والثابت أيضا أنّ ما جدّ من خلافات حول هذه النقطة الأخيرة المتعلقة بالفصل 111 جاء ليؤكّد أن لا شيء سيكون غير ذي أهمية داخل المجلس وإن كان من الأمور الشكلية التنظيمية التي تهمّ تنظيم سير الجلسات أو العلاقات بين النواب وبين المجلس ومختلف مؤسسات الدولة أو المجتمع المدني فكيف إذا تعلّق الأمر بتنظيم عمل هيئة سيكون دورها ربّما الأخطر والأهم وهو الذي ما انتُخب المجلس إلّا من أجله (صياغة الدستور)... لذلك فإنّ من الأجدى أن يتم تحييد هذه الخلافات عن أبعادها السياسية وألّا يكون موقف كل طرف مبنيا على أساس حسابات سياسية أو نقاط سيكسبها على حساب خصمه، لأنّ المسألة متعلقة أساسا بمصلحة البلاد، وهذا هو المحرّك الذي يجب أن يعتمده كلّ فريق في الدفاع عن مواقفه وتصوّراته بعيدا عن التجاذبات الحزبية والمعارك السياسية.