كان يوما عصيبا ذاك الذي عرفته تونس في مثل هذا اليوم من عام 1978، وكان يوم خميس كما يومنا هذا. سمّاه التونسيون ب«الخميس الأسود» لهول ما تعرضت له الجماهير الغاضبة التي ثارت على سياسة الصناديق المالية العالمية التي أذت الانسان وجعلت اقتصاديات بلدان عديدة مثل تونس اقتصاديات مرتبطة بالمركز : مركز الرأسمالية المتوحشة... مازلنا نتذكّر ذاك التاريخ عندما تعرّضت الحركة النقابية في تونس والتي بدأت تبذر نواة النضال العلني ضد قمع الحريات وتكميم الأفواه... وسياسة الزج بكل رأي مخالف للحزب الواحد والرئيس الواحد والرأي الواحد، في بوتقة الانحسار... والقمع والمصادرة... في مثل هذا اليوم من سنة 1978، كنا تلاميذ في الثانوي وشاءت الأقدار أن يكون ذاك التاريخ عطلة نصف سنوية، والا فإن المعاهد الثانوية والجامعات كانت ستلتحم بالشارع النقابي، الذي يخفي وراءه تيارات سياسية، قمعها النظام وألحق بها نعوتا ما أنزل ا& بها من سلطان... تونس العاصمة كما عدد من المناطق والولايات الاخرى تشابهت فيها قصص الموت والملاحقة والزج بالمناضلين في السجون... وكانت المفاجأة التي ألحقت فجيعة صلب النظام بأن التحمت الجماهير مع النقابات، وكانت عملية كسر العظم قد بدأت بين النظام والاتحاد العام التونسي للشغل... اليوم، ونحن نستذكر تلك الأحداث الدامية نستقرئ الأحداث ونرتّبها لكي نستفيد من عبرها وحتى ننأى بتونس الثورة من السقوط مرة أخرى في براثن الدكتاتورية... في مثل هذا اليوم تنادى التونسيون وقالوا في كلمة واحدة: كفى حصارا للحريات... فقد بلغ السيل الزّبى... إذ ليس صحيحا أن أحداث 26 جانفي كانت «لعبة» خاصة جدا بين قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل والنظام... وتحديدا بين الحبيب عاشور الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل والحبيب بورقيبة رئيس الجمهورية ورئيس الحزب الاشتراكي الدستوري (الحزب الحاكم). فقول هذا الطرح فيه سذاجة واعتداء على العقل البشري في تونس. لقد مثّلت أحداث «الخميس الاسود» نقطة اللاعودة، بين نظام أضحى معزولا عن الجماهير وعن الشعب، من خلال غياب الحريات وتراجع المقدرة الشرائية لأن سياسة البلاد اعتمدت على الليبرالية الاقتصادية، بدون أن يكون لها سند في الصناعات والانتاج المستقل، وبين الجماهير الشعبية التي لم تعد تنطلي عليها الحيَل، حيل «جعلتها تبتلع سابقا، الطعم وراء الآخر، من قبيل أنّ الفاعلين الذين يقفون ضدّ النظام إنما هم شرذمة تصطاد في الماء العكر، ولا تريد الخير والصلاح لتونس»، على اعتبار أن صلاح تونس، هو فقط من اختصاص الزعيم وحده... يوم 26 جانفي 1978 كان تاريخا مفصليّا، فقد شبّ «حريق» الممانعة والرفض للسياسة العليا للدولة، ذات الرأس الواحد والحزب الواحد، مجموعة القصبة ونقصد الحكومة، حين تقدم عدد من الوزراء (حكومة نويرة) باستقالاتهم من مناصبهم، قبل أن يحلّ عام 1978... إذ لأول مرة يقف عدد من وزراء بورقيبة ليقولو «لا» ويقدّموا استقالاتهم في عملية فراغ وزاري غير مسبوقة... ولقد تحرك الاتحاد العام التونسي للشغل، كقيادة استجابة لضغط القاعدة والرأي العام في تونس، في مشهد كان خاليا من الأحزاب السياسية المنافسة أو المعارضة للحزب الحاكم، وفي ظلّ بروز قيادات نقابية جامعية وغير منخرطة في حزب الدستور. في مثل هذا اليوم، دفعت تونس الثائرة في 1978، دماء شهداء وعاودت سجونها الموعد مع المناضلين الثائرين على أوضاع البلاد، التي عرفت القهقرى... 26 جانفي 1978 هو تاريخ مفصلي في الحياة السياسية بتونس، فمنه انطلقت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان ومنه اشتدّ عود الممانعة السياسية الجديدة، تحت يافطة الاتحاد العام التونسي للشغل وجريدة «الشعب» الناطقة باسم الاتحاد والتي دخلت طور السرّية بعد الأزمة... وقدم للمحاكمة من أعاد نشرها وطبعها سرّا... وانطلقت الجامعة التونسية في مشوار جديد، هو بكلّ المقاييس أشدّ تجذّرا ممّا كانت عليه بداية ومنتصف السبعينات. يوم 26 جانفي 1978 مثل علامة فارقة بين تونس الساكنة وتونس الصاخبة، صخبا إيجابيّا... باتجاه التوق الى مكان أفضل لتونس... تونس التي لم يعد مناسبا ولا مشرّفا لها أن تكون بلدا منتهكة فيه الحرّيات ومصادرة فيه الكلمة الحرة، والحال أن عدد الجامعيين فيها قد قفزت أرقامه الى الأعلى بشكل ملفت... ضحايا عديدون من شهداء ومطرودين، ومنفيين، كانت لهم الكلمة الفصل يوم 26 جانفي 1978، آن الأوان لاستذكارهم... وإقامة العدالة لانصافهم... ذلك أن في تونس ثورة... والتاريخ النضالي لهذا الشعب اضافة الى الامتحانات التي مرت بها تونس، من أجل الكرامة والحرية، ليست امتحانات عادية... ولقد نجح التونسيون، محطّة عقب محطّة، لذا، لا تصادروا حق هذا الشعب في مكان تحت الشمس... شمس الحرية والكرامة الوطنية والقومية.